(الساعة الحادية عشر مساء): بدأ وكأنه ممثل انتهى للتو من تأدية دور السجين وجلس على الأريكة ليرتاح. منفضة السجائر بدأت تلفظ الرماد. ولولا فتحة التهوية لاختنق بدخان سجائره. بعد كل دقيقة يتحسس يديه ليتأكد أنه غير مقيد. ينهض يركل قيودا وهمية من قدميه يدخل كل غرف المنزل، يركض في الممرات، يفتح الباب يقف على العتبة يقول لنفسه وهو يضرب صدره: "لن تخطو خطوة واحدة في الخارج، السجن ما زال هنا في الداخل". تختلط عليه الأصوات: مذيعة، أغنية، صراخ، موسيقى. يقفل التلفاز، لمدة سبعة عشر عاما لم يسمع سوى صوت أشياء تجر في الممرات، صوت صنبور الماء يبكي معه عليه قطرة قطرة. وأنين؛ تساءل مخططا لحياة مشابهة إن كان في مراكز التحميل أصوات أنين بصيغة mp3!. (الساعة الحادية عشر والنصف مساء): فتح الهاتف المحمول، الذاكرة فارغة بلا أسماء ولا أرقام، من أعطاه إياه أخبره أنه للطوارئ والذاكرة الفارغة رسالة مضمرة: "نحن إخوتك وأهلك بالاسم، لسنا للطورائ" فهمها جيدا. طلب رقم الطوارئ الخاص بالدولة للإحساس بأن طرفا آخر في الحياة من الممكن أن يتجاوب معه، استمع للمجيب يسأله عن حالته الطارئة، ويكرر السؤال باهتمام، ابتسم بحزن لاهتمام مفاجئ لم يحظ بمثله منذ مدة طويلة وهم أن يقول: "أنا على قيد الموت منذ سبعة عشر عاما.. أنقذوني رجاء". لكنها لم تعبر حنجرته أبدا فأغلق الخط. منتصف الليل، السرير مريح جدا، والوسادة ناعمة. الدفء.. ثمة شعور بالاحتواء بعثه هذا الدفء، أبكاه. لم يستطع النوم نهض من السرير وتمدد على الأرض الباردة، غفى غفوة طويلة حتى الثانية والنصف بعد منتصف الليل، سمع صوت بعوضة تحوم حول رأسه.. بعوضة، خلال السبعة عشر سنة الماضية لم تزره إلا بعوضة واحدة واختفت فجأة لعلها هي جاءت لتلقي عليه التحية كصديق قديم. لعشر دقائق ظل يراقبها على ذراعه الأيمن تمتص دمه، ربما من باب الضيافة فعل هذا. (الثالثة صباحا البعوضة اختفت!): بينما هو ما زال ممددا يحدق في السقف. قرابة الخمسين مرة يقرص نفسه ليتأكد أنه لم يجد فرصة ليتسلل إلى حلم أحد المساجين الجدد بالحرية. تدخّل أذان الفجر للحد من شعوره بالضياع، بالغربة. توضأ، وبعد خطوتين نحو السجادة عاد إلى صنبور الماء فتحه قليلا وأغمض عينيه كمن يبتهل يستمع إلى صوت قطراته الرتيبة، تدخّل أذان الإقامة هذه المرة، صلى الفجر، أطال في سجوده كأنه بعث روحه إلى السماء وينتظرها أن تعود. (السادسة صباحا): المطبخ مليء بالأشياء الحادة التي قد تفتح ثقبا في جسده ليمنح دمائه حرية الهرب. الإفطار، تأمل مليا القائمة الطويلة من الطعام التي تندرج تحت مسمى الإفطار. تناول قليلا من الجبنة والخبز، لكنه بصق الشاي لغرابة طعمه. (السابعة صباحا): ورقة وقلم تمنى لو أن هناك شخصا آخر يمسك بيده كما كانوا يفعلون ليرغموه على توقيع أوراقهم، لكن هذه المرة ليكتب. ليس عن شيء محدد ولكن ليكتب فقط. (التاسعة صباحا): تسعة عشر ورقة مجعدة على الأرض، وثلاثة عشر على الطاولة مليئة بالكلام بجمل طويلة، متراصة بشكل يوحي بأن ما كُتب دراميا ومفجعا إلى حد كبير. في العاشرة والنصف صباحا أصابته نوبة المشي المعتادة، اشتاق إلى صوت السلاسل في قدميه، لكن ما من سلاسل! في الحادية عشر صباحا فتح التلفاز سمع المذيعة تصرح بمقتل شخصية مهمة في ظروف غامضة، رفع الهاتف المحمول، اتصل على رقم الطوارئ: "أنا قتلته، أعيدوني إلى السجن"!.