من أبرز العناوين التي تصدرت صحفنا المحلية الأسبوع المنصرم :عضو شورى تتهم كتاب الرأي بمخالفة الشريعة، ومناشط دعوية تسلب براءة الأطفال، وداعية سعودي يعتبر الحرم المكي مكانا خطرًا على الشباب والسبب حشمة الحجاب. وفيما يتعلق بالحملة على الكتاب، فليست بالجديدة، بل هي وسيلة يتخذها كل من أراد أن يتقرب لحزب التشدد، ليحجز موقعا له داخل تلك المنظومة التي تقتات على استعداء الآخر المخالف لهم في توجهاتهم المتشددة ليس غير، إذ لا يرتضون بحصر الاختلاف في تلك الدائرة، بل يصرون على جعله أكبر من ذلك، ليدخل في حيز الخيانة في أحسن الأحوال، وفي أحوال أخرى يدخلونه في حيز الكفر والخروج من الملة كما غرد أحدهم، بل نعق قبل أيام في تويتر، بلا رادع من ضمير ولا خشية من الله . ويتعاضد ما قالته عضو الشورى بشأن الكتاب مع ما يقوله صانعو خطاب الكراهية منذ أعوام بشأن كتاب الرأي، فلا جديد سوى أنهم باتوا ذرية بعضها من بعض، يتكتلون في معركةٍ الخاسر الأوحد فيها هو الوطن، لذا دائما ما تقتحمنا أسئلة من نحو : هل يدرك هؤلاء ما يصنعون ؟ وهل يعنيهم الهم الوطني وما يحيط به من أخطار ؟ ثم إلى متى يغلّب هولاء الإيديولوجيا الضيقة والمصالح الفئوية على حساب أمن الوطن ووحدة مواطنيه ؟ ومما ذكرته الصحف في هذا الشأن: (مداخلتها على تقرير وزارة الثقافة والإعلام بملاحظاتها المتكررة لوجود كتابات صحافية استغلت حرية الصحافة لتمس بقدسية مصدريْ التشريع القرآن والسنة، الأمر الذي جرأهم أي الكُتاب على الإفتاء في أمور جوهرية تهز أساس المجتمع، في ظل غياب للدور الرقابي في وزارة الإعلام)! ولا أدري عن أي إعلام تتحدث ؟ أعلى الإعلام المحلي الذي يقوم عليه مسؤولون يدققون في كل ما ينشر، أم على الصحف التي يتولاها رؤساء تحرير هم أشد ما يحرصون على عدم خرق المفاهيم الدينية ؟ وهل سبق أن مارست الكتابة في الصحف المحلية لترى حجم الرقابة على كل ما يكتبه الكتاب ؟ إن ما ذكرته لا يعدو كونه قولاً مرسلاً لا ينهض به دليل ؟ وكان الأحرى بها لتكون مداخلتها رصينة محمكة غير خاضعة للهوى أن ترفقها بأدلة تؤيدها. لكن لا عتب فهذا شأن الخطاب المتشدد، وتبادل الأدوار في الهجوم على الكتاب. ويؤيد ما ذهبنا إليه قول بعض الأعضاء في جلسة الشورى تلك، إن (الدعوات المتكررة بتعزيز الهوية الإسلامية في السياسة الإعلامية لوزارة الإعلام، والتحريض ضد معرض الكتاب وكتاب الرأي بالتعدي على ثوابت الدين، تنسيق متوقع بين تيار معين داخل المجلس، لإيصال رسائل مقصودة للتأثير في توجه الوزير الجديد الدكتور عبدالعزيز الخضيري). وأظن أن هذا هو بيت القصيد. إن الكتّاب المستهدفين بخطاب الكراهية، هم دعاة التنوير في الوطن العاملون على إخراجه من النفق المظلم الذي حُبس فيه أكثر من ثلاثين عاماً، الذين يمارسون فعل التنوير في مقالاتهم لإيمانهم بالوطن، أولئك الذين لم يختاروا المنطقة الرمادية، فجهروا بما يعتقدون ويؤمنون بأنه لا يتعارض البتة مع جوهر الإسلام، بل مع العادات والتقاليد التي بات لها حراس غلاظ شِداد، يتجاهل هذا الاستعداء الممنهج على الكتّاب أن الملك - حفظه الله - خصهم في إحدى خطبه بالذكر، وشكرهم بعد العلماء مباشرة بقوله : (ولا أنسى مفكري الأمة وكتابها الذين كانوا سهاماً في نحور أعداء الدين والوطن والأمة)، فكيف يأتي أولئك مشككين في صنيع الكتاب ؟ أليست تلك الوطنية التي استشعرها الملك وكل المخلصين برزت من خلال ما يكتبونه دفاعاً عن الوطن، وحماية لأمنه ووحدة مواطنيه ؟ ثم لو كان فيها ما يتصادم مع الدين وحقائقه الثابتة، أكان الملك يثني عليهم ويقدر دورهم ؟ وفي هذا الصدد يقول أحد الكتاب المحايدين وهو يصف المشهد : (ويمكن أن أؤكد بكل وضوح أن هذه الحملة لتصفية الحسابات فضلًا عما فيها من تعميم خاطئ، وتدخل في النيات، واتهام بالخيانة، ومزايدة على المواطنة، واستخدام البعض منهم لعبارات سوقية لا تليق بمكانتهم، واستغلال سيئ للدعم السياسي لا يعد مثله من شيم الأحرار، فهو أيضا لن يخدم بحال مصلحة الوطن، ولن يساهم في حال من الأحوال بدعم حركة الإصلاح الذي ننشده، ولن يزيد المجتمع إلا توترا وقلقا). ويدخل في خطاب الكراهية تغريدات راجت في تويتر، لأحدهم يرمي بها من اصطلحوا على تسميتهم ليبراليين، ويدخل في هؤلاء الليبراليين حسب تسميتهم جمع من الكتاب وبعض المسؤولين بلغة لا يمكن تصور صدورها عن مسلم يؤمن بكل ما جاء به الدين من مفاهيم تحض المسلم على عدم قذف المسلم ورميه بالتهم حتى وإن كان قد ارتكبها، فما بالنا بالظن الذي عدّ الله تعالى بعضه إثما ! ومما كتبه تحت عنوان : (أحكام شرعية تتعلق بالجالية الليبرالية) يبرز مصطلح جديد، ليكون معادلا للمصطلح المشبوه الذي اجترحه أحد أفراد منظومة الاستعداء، ألا وهو : (المتصهينون العرب) ! يقول صاحب التغريدة العجيبة في أحكامه : (لا يقام حدّ القذف على من يقذف الليبراليين والليبراليات، لأن هذا الحد للعفيفين والعفيفات) ! ويقول في الثانية : (ومنها جواز لعنهم بالعموم، فقد اجتمعت فيهم جميع مسوغات اللعن لجنسهم، أما لعن أعيانهم ففي ذلك خلاف)، ويقول في الثالثة : (ومنها عدم جواز الصلاة على من عُلم انتسابه إلى هذه الجالية إذا مات، فإنهم يأخذون أحكام المنافقين الأوائل) انتهت تلك التغريدات الموبوءة التي تختصر المشهد كله في عبارة واحدة هي الجرأة على الدين بمخالفة أحكامه وشرائعه، فما قاله من أحكام لا تطبق بعبثية ومزاجية، بل لها قيود وضوابط متى ما تم التحقق منها، لكنه هنا ينفس عن حقد متأصل، وجرأة أمنت العقوبة، وقدرة على استخدام وسيلة إعلامية لا تخضع للرقابة والمحاسبة ! إنه لايمكن وصف تلك التغريدات سوى أنها خطاب فتنة، تحرض على الكراهية وتستعدي على بعض المواطنين، ما يؤكد أن معاول الهدم التي تستهدف وحدة الوطن لم تعد مقصورة على أناس بسطاء أو موتورين، بل إن الأمر تخطاهم فبات يشكل خطورة كبرى على أيدي بعضهم، تتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي محضنا لها، الأمر الذي دعونا مرارا وتكرارا إلى وجوب محاسبة من يثبت تورطه في صناعة هذا الخطاب الذي يستهدف الوطن ببث الفرقة بين أبنائه. إنّ إلصاق التهم بلا دليل اتباعاً لهوى الأنفس الأمّارة بالسوء، يدخل في البهتان الذي قال الله عنه (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)، وهو البهتان الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عنه قائلا: (أتدرون ما الغيبة قالوا : الله ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره، قالوا : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) رواه مسلم. لكن كيف السبيل إلى إيمانه بهذا وهو قد عقد العزم على إخراج الليبراليين من الدين ؟ لقد شاع خطاب التحريض على الكتاب حتى أصبح من يحاول تحليله لا يجد سوى لغة مشحونة بمفردات الحقد والكراهية والتخوين والتفسيق، ونكاد لا نجد لهذا الخطاب الذي يعج بكل تلك الحمولات مثيلا في المنطقة، وكأنه لا رابطَ دينياً ولا وطنياً يربط بين منتجيه، والمستهدفين به، ما أقام حاجزًا نفسيًا وجدارًا عازلاً بين بعض أطياف المجتمع. فإن كانت غاية منتجي خطاب الكراهية الإصلاح، فلا ريب أنهم ينطبق عليهم قوله تعالى :( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) . وختام القول، إن الذي يبدو من تلك الأقوال أن أصحابها تأخذهم الحمية، حمية الجاهلية فيعمدون بوعي أو دون وعي إلى تمزيق أواصر المجتمع، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا ! وبعد أن يئس بعضهم من محاولات شدّ المجتمع إلى الوراء، لم يجدوا من وسيلة سوى إثارة المعارك وإرسال التهم جزافا، لإشغال الناس كافة عن القضايا الكبرى. لهذا يظهر بين الحين والآخر أناس مأزومون، لديهم إشكالات على نحو من الأنحاء فيفتعلون ضجة كبرى رغبة في الظهور، وحباً في أن تصبح أسماؤهم قيد التداول، متصدرة عناوين الصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذا صنيع العاجزين عن تحقيق إنجاز حقيقي يرسمهم علامة مضيئة في سماء الناجحين، فيلجأون لأسلوب الإثارة الرخيص ؛ لأنه أسهل الطرق وأسرعها انتشارا، غير عابئين بالوسيلة، والآثار المترتبة على ما يفعلون! وللحديث بقية !