(في هذا الجزء من كتاب باومان "هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي؟" يواصل المفكر البولندي تحليل السمات التي يتسم بها شبان اليوم في مواجهة متغيرات الحياة وما تطرحه من خيارات وتستدعيه من قرارات، ويضع نفسه، بطريقته المميزة في الخروج على الأسلوب الأكاديمي، مثالاً لتلك الفروق بوصفه من أفراد جيل نشأ بتفكير مختلف تجاه الحياة. ومن الملاحظ، كما سبق لي أن أشرت في ترجمة الأجزاء الأخرى من هذا الفصل من الكتاب، أن مرجعية باومان تظل مرجعية أوروبية، مع أن ذلك لا ينفي وجود التقاطعات بين ما ينسحب على الأوروبيين، حسب تحليله، وما ينسحب على الشبان في مجتمعات غير غربية). *** الذين يهمهم المستقبل ويقلقون من تقويض فرصهم القادمة لا يختلفون عن أولئك الذين لا يرون فائدة في تأخير المتعة ويقررون أن يعيشوا "للحظة" في أنهم جميعاً مقتنعون بأن وعود الحياة ليست مضمونة. يبدون جميعأً مقتنعين باستحالة تبني قرارات سهلة، أو التنبؤ بدقة بأي الخطوات المتوالية سيثبت بأنها الصحيحة، أو أي بذور المستقبل المتناثرة ستأتي بالفاكهة الكثيرة الحلوة المذاق، وأي براعم الزهور ستذبل وتغيب قبل أن تأتي هبة ريح مفاجئة أو تأتي نحلة بزيارة مفاجئة لتلقحها. ولذا بغض النظر عما يعتقدونه، فإنهم جميعاً متفقون على الحاجة إلى الإسراع، وأن عدم فعل أي شيء، أو فعل شيء ببطء وبلا حماسة خطأ كبير. يصدق ذلك بشكل خاص على الشبان، كما لاحظت سويدا زييمبا، فهم يجمعون الخبرات والمؤهلات "لأنه قد تطرأ حاجة إليها". يقول البولنديون الشبان "موزي" može (ربما)، بينما يقول نظراؤهم الإنجليز perhaps، والفرنسيون peut-être، والألمان vielleicht، والإيطاليون forse، والأسبان tal vez – لكنهم جميعاً يقصدون الشيء نفسه: من يدري، طالما استحالت المعرفة، هل تفوز هذه البطاقة أم تلك في السحب القادم من يانصيب الحياة؟ أنا شخصياً واحد من أفراد "الجيل الماضي". حين كنت شاباً قرأت باهتمام، مع معظم أقراني، تعاليم جان بول سارتر بشأن اختيار "مشروع حياة" – ذلك الخيار الذي قُصد بأن يكون "اختيار الاختيارات"، الماوراء اختيار الذي سيحدد، وبشكل نهائي، من البداية حتى النهاية، كل ما يتبقى من اختياراتنا (الثانوية، الاشتقاقية، التنفيذية). لكل مشروع (هكذا تعلمنا من قراءة توجيهات سارتر) ينبغي وضع خارطة طريق متصلة به وتعريف مفصل حول كيفية متابعة البرنامج. ولم نجد صعوبة في فهم رسالة سارتر فقد كانت منسجمة مع ما بدا أن العالم من حولنا يعلنه أو يتضمنه. في عالم سارتر، كما في العالم الذي عاشه جيلي، كانت الخرائط تشيخ ببطء إن شاخت مطلقاً (بل إن بعضها كان يدعي أنه "الصحيح")، وكانت الطرق تُرسم للمرة الأولى والأخيرة (مع أنه كان يمكن إظهارها بين الحين والآخر لتحقيق المزيد من السرعة)، كما أنها طرق تعد بالوصول إلى نفس الهدف في كل مرة تُتبع؛ كانت العلامات عند التقاطعات يعاد صبغها، لكن ما تقوله لم يكن يتغير. لقد استمعت أيضاً (وأنا ما أزال بصحبة الشبان الآخرين من جيلي)، بصبر وبلا همهمة احتجاج، ناهيك عن التمرد، إلى محاضرات في علم النفس الاجتماعي تأسست على تجارب مخبرية أُجريت على فئران في متاهة، تبحث عن تتابع الأدوار الوحيد والصحيح – أي الخطة الوحيدة التي تؤدي إلى قطعة شحم في النهاية ويريدها الجميع – وذلك لكي تتعلم وتتذكر ذلك بقية حياتها. لم نحتجّ على ذلك لأننا سمعنا في معاناة الفئران وهمومها، مثلما سمعنا في نصيحة سارتر، أصداءً لتجارب حياتنا نحن. غير أن من المحتمل أن ينظر معظم الشبان اليوم إلى الحاجة إلى تذكّر الدرب المؤدي إلى خارج المتاهة على أنها مشكلة الفئران لا مشكلتهم هم. سيهزون أكتافهم لو نصحهم سارتر بأن يحددوا هدف حياتهم ويضعوا مخططاً مسبقاً للتحركات التي تضمن الوصول إليه. الواقع أنهم سيعترضون: كيف لي أن أعرف ماذا سيأتي به الشهر القادم، ناهيك عن السنة القادمة؟ يمكنني أن أتأكد فقط من شيء واحد هو أن الشهر أو السنة القادمة، وبالتأكيد السنوات التي تلي، ستكون مختلفة عن الزمن الذي أعيشه الآن، ولأنها ستكون مختلفة فستلغي معظم المعرفة والخبرة التي أمارسها حالياً (مع أن من غير الممكن تخمين أي جزء من تلك المعرفة والخبرة)؛ علي أن أنسى معظم ما تعلمته، وعلي أن أتخلص من الكثير من الأشياء والميول التي أُبرزها وأفخر بها (مع أن من غير الممكن تخمين أي تلك)؛ الخيارات التي تُعد اليوم الأكثر منطقية والأجدر بالثناء ستكون موضع تهكم غداً بوصفها تخبطات سخيفة ومخجلة. غير أن من المحتمل أن ينظر معظم الشبان اليوم إلى الحاجة إلى تذكّر الدرب المؤدي إلى خارج المتاهة على أنها مشكلة الفئران لا مشكلتهم هم. سيهزون أكتافهم لو نصحهم سارتر بأن يحددوا هدف حياتهم ويضعوا مخططاً مسبقاً للتحركات التي تضمن الوصول إليه ما يعنيه ذلك هو أن المهارة الوحيدة التي أحتاج امتلاكها حقيقة هي "المرونة" – مهارة التخلص السريع من المهارات غير المفيدة، القدرة على النسيان السريع والتخلص من مكتسبات الماضي التي تحولت إلى أعباء، مهارة تغيير الخطط والمسارات خلال برهة قصيرة وبلا ندم، وتلافي الالتزام بولاءات تمتد مدى العمر نحو أي شيء وأي شخص. إن الانعطافات المفيدة تظهر، في نهاية المطاف، فجأة وبدون سابق إنذار، وتختفي أيضاً بالطريقة نفسها؛ الويل للبلهاء الذين سواء أكان عن قصد أم تلقائياً يتصرفون كما لو كانوا سيحتفظون بها للأبد.