إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يصمد محتفظاً بإنسانيته بعد نهاية الحضارة؟؛ نعني نهاية الحضارة كما نعرفها الآن وليس "نهاية العالم". وإلى ماذا سيؤول مصير الإنسان الذي عاش فترة الحضارة ثم شهد انهيارها؟. جاء فيلم "المتجول"، أحدث أعمال المخرج الأسترالي "ديفيد ميشو"، ليطرح السؤال المؤرق: هل هناك قرار لحفرة السقوط الإنساني؟. شعار فيلمنا هذا "خف ممن ليس لديه ما يخسره"، وهي عبارة قد تبدو مستهلكة لكنها تأتي بشكل حرفي هذه المرة، حيث يصور الفيلم عالماً لم يعد فيه إلا القليل من القانون، القليل من الغذاء، القليل من الوقود، وقبل ذلك كله: القليل من الإنسانية. لأنه لا يوجد وحشٌ أكثر فتكاً من إنسان فقد إنسانيته. تجري أحداث الفيلم في "أستراليا، بعد عشر سنوات من الانهيار" كما يظهر في بداية الفيلم، نرى شخصية الفيلم الرئيسية إريك (جاي بيرس) بوجهه المكفهر، يتوقف في محطة لإستراحة المسافرين، لتتم سرقة سيارته من قبل عصابة تورطت في عملية دموية لم تتم على الوجه المطلوب. يهرع إلى ملاحقتهم بلا هوادة، مصراً على استعادة سيارته بأي ثمن –لماذا؟-، وما أن تتقاطع طريقه مع المصاب الساذج راي (روبرت باتنسون)، العضو في العصابة والشقيق الأصغر لأحد أفرادها، يصطحبه معه، فهو بالنسبة لإريك، الأمل الوحيد للوصول لهذه العصابة وبالتالي لسيارته. وعوضاً عن أن يستخدم المخرج "ديفيد ميشو" اللقطات القصيرة، والموسيقى المتسارعة، لتصوير هذه "المطاردة"، يعمد إلى اللقطات الصامتة الطويلة بتصوير جميل من "ناتاشا براير" التي تولت مهمة إدارة التصوير السينمائي للفيلم، ليحكي من خلال الصورة رحلة شخصياته عبر الصحراء الأسترالية المقفرة التي هي بحق أحد أبطال الفيلم!. وزاد من تأثير الفيلم الموسيقى التصويرية التي تولى مهمتها "أنتوني بارتوس" في تعاونه الثاني مع المخرج بعد فيلم "مملكة الحيوان"، ويحسب له خروجه عن المألوف، كاختياره لبعض الأغاني الشهيرة التي قد تبدو غير متسقة مع الفيلم من وجهة النظر النمطية. بالإضافة إلى "إريك" و"راي"، فلم يخل الفيلم من الشخصيات الثانوية المثيرة للاهتمام، كتلك "الطبيبة"، التي تضمد جراح "راي" وتقدم مأوى للكلاب بعد أن أصبحت طعاماً للجائعين، أو تاجر الأسلحة، وغيرها من الشخصيات الغريبة التي تحتل المشهد كلما توقفا في رحلتهما التي لا تبدو قريبة من النهاية. حتى إذا جاءت النهاية، وتجمعت قطع الأحجية، وجدنا تفسيراً للرغبة الملحة لدى "إريك" باستعادة سيارته. الآداء أحد أبرز نقاط قوة الفيلم، الممثل الأسترالي الخبير "جاي بيرس" –"لوس أنجلوس سري 1997" "تذكار 2000" " العَرض 2005"- حمل الفيلم على كتفيه بتقمصه لشخصية المحارب القديم الذي ليس لديه ما يخسره -يظهر في كافة مشاهد الفيلم تقريباً- بحيث يصبح من الصعب تخيل ممثل آخر في نفس الدور. أما "روبرت باتنسون" القادم من سلسلة الأفلام التجارية "الشفق 2008-2012"، فقد قدم أداء رائعاً يبدو أنه سيسهم في بناء مسيرته السينمائية، بالذات إذا وفق في لعب دور "لورنس العرب" في فيلمه المقبل، وهو ما قد يضعه في مقارنة قد لا تكون لصالحه مع " بيتر أوتول" الذي قدم أحد أشهر الأدوار السينمائية في فيلم العام 1962 بنفس العنوان. الفيلم ليس كاملاً، فهو ذو رتم بطيء قد يصل أحياناً لدرجة الملل، كما أن تصويره للعنف مبالغ فيه، هناك مشهد عنيف جداً غير ضروري ويمكن الاستغناء عنه كليةً. ومع ذلك تبقى التجربة الثانية لديفيد ميشو مثيرة للإعجاب بعد فيلمه الأول الرائع "مملكة الحيوان 2010"، الذي لا يقل عن هذا الفيلم قتامة. في لقاء تلفزيوني يسأله محاوره عن عمله المقبل، يجيب ضاحكاً: فيلم كوميدي!، وهناك أخبار عن تعاون مع النجم الهوليوودي الشهير براد بيت. على كل حال، يبدو أن أعمال هذا "الفنان" تستحق الانتظار. ديفيد ميشو متوسطاً بطلي فيلمه في مهرجان كان