من أشهر الأساطير الإغريقية القديمة، حيوان "الهيدرا" الذي يعيش في المستنقعات، وهو وحش بجسم ثعبان له عشرة رؤوس مخيفة، وبمجرد أن يُقطع أحدها، يظهر ألف رأس جديد. فحيوان الهيدرا تحول من مجرد أسطورة إلى حقيقة نعيش كل تفاصيلها الآن، لأنه ظهر بشكل جديد يتمثل بظاهرة الفساد التي تتشكل من الكثير من الرؤوس والأشكال والصور، ومهما تضافرت وتضاعفت الجهود والأمنيات للقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، إلا أنها قادرة على التجدد والتمدد. فالفساد بمختلف ألوانه وأشكاله و مستوياته، سوسة تنخر في بنية المجتمع، وتتسبب في زعزعة الثقة والاطمئنان لدى الإنسان، بل ويعرقل مظاهر التطور والازدهار في هذا الوطن، بل وفي كل الأوطان. ولأن الفساد، آفة فتاكة ووباء عضال وخطر داهم، ولديه القدرة على الانتشار والتغول في كل تفاصيل المجتمع، الصغيرة والكبيرة، فإن محاربته ليست بالأمر السهل، بل يتطلب وقفة حازمة وصادقة ومخلصة من كل المؤسسات والهيئات الرسمية والخاصة، إضافة إلى تعاون وتضافر من المجتمع بأفراده ومكوناته ونخبه. ويُخطئ من يظن بأن إنشاء "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" (نزاهة) خطوة متأخرة جداً، خاصة وإن ظاهرة الفساد بكل صورها ومستوياتها، لا يكاد يخلو منها أي مجتمع على وجه الأرض. فظاهرة الفساد في المجتمع، قضية حساسة جداً، وقد وجدت تعريفات وتوصيفات ونقاشات وتوصيات كثيرة حول هذه الآفة الفتاكة في الكثير من أدبيات وتفاصيل الأجهزة الحكومية والإدارية، ولكنها كانت أشبه بإشارات وتحذيرات منفصلة تهتم بها كل وزارة أو إدارة أو مؤسسة بمفردها. تعتبر "نزاهة" أحد أهم وأحدث الهيئات الاستشارية والرقابية والنافذة، التي أُنشئت مؤخراً، وتتعاطى مع ظاهرة خطيرة جداً، بل هي المدخل الرئيسي لكل الظواهر والأمراض والآفات المجتمعية المختلفة. وعلى غير العادة المعهود بها، في الكثير من الهيئات والمؤسسات الوطنية التي تُنشأ، بدأت نزاهة عملها وفق إستراتيجية وطنية واضحة متزامنة مع إنشائها. وفي جولة سريعة في ثنايا وزوايا هذه الإستراتيجية الوطنية لحماية نزاهة ومكافحة الفساد، يمكن التوقف كثيراً عند بعض النقاط المهمة جداً والتي تضمنتها منطلقات وأهداف ووسائل وآليات هذه الإستراتيجية الوطنية. فمن أبرز ملامح هذه الإستراتيجية، الإشارة إلى أن الفساد له عدة صور وأشكال، كجرائم الرشوة والمتاجرة بالنفوذ، وإساءة استعمال السلطة والإثراء غير المشروع وعدم الأمانة في استخدام المال العام. أيضاً، إن مكافحة الفساد بحاجة إلى وجود برامج وإصلاحات تحقق العدالة الاجتماعية وتوفر المناخات المناسبة والمتساوية لكل المواطنين على السواء. كذلك، تعزيز القدرات الرقابية لمختلف أجهزة الدولة لتمكينها من أداء أدوارها ووظائفها بشكل شفاف ودقيق. كما تشير الإستراتيجية وبشكل واضح إلى ضرورة العمل بمبدأ المساءلة لكل مسؤول وفق قاعدة "كائن من كان"، وحسن اختيار المسؤولين التنفيذيين وسرعة البت في قضايا الفساد وإقرار مبدأ الشفافية والنزاهة داخل مؤسسات الدولة وبمشاركة مؤسسات المجتمع المدني. كما لا تغفل هذه الإستراتيجية، توظيف وسائل التربية والتوعية والإعلام لنشر ثقافة حماية المال العام. يبدو أن الوقت قد حان لدق ناقوس خطر الفساد، هذا الداء الخطير الذي يمهد الطريق لكل الآفات والأمراض والأزمات لمجتمعنا، بل ولكل المجتمعات. نعم، نحن مطالبون جميعاً بمحاربة الفساد وحماية النزاهة، ولكن قبل كل ذلك، لابد من تشخيص دقيق لحالة المجتمع، لمعرفة أسباب ودوافع هذه الظاهرة الخطيرة. لماذا يضطر موظف بسيط لتجاوز الأنظمة أو استغلال وظيفته؟ ومن هو المسؤول عن انتشار ظاهرة الرشوة والمحسوبية والفئوية والقبلية؟، أين دور الهيئات والمؤسسات الرقابية في أجهزة الدولة؟، ما هو دور المواطن والمقيم في كشف مظاهر الفساد المختلفة؟ هل توجد قوانين وتشريعات واضحة لكشف ومحاسبة المفسدين؟، لماذا لم تؤثر تعاليم وأخلاقيات الدين للحد من تمظهر ظاهرة الفساد؟ هل تصل قبضة "نزاهة" لكل مكامن الفساد في المجتمع؟، كيف نصل إلى مراكز متقدمة في مؤشرات ومقاييس الشفافية والنزاهة العالمية؟ أسئلة كثيرة جداً، الإجابة عليها، قد تضعنا على الطريق الصحيح، لحل الكثير من المشكلات والملفات والأزمات التي تسببها ظاهرة الفساد، ولكن الإجابة على السؤال أعلاه الذي احتل عنوان المقال، ستقضي بلا شك على الكثير من مظاهر وملامح الفساد في مجتمعنا.