أعتقد أن المؤسسة الدينية لدينا استطاعت أن تتعامل مؤخراً مع ظاهرة العنف الديني بعقلانية وترو، وذلك بعد أن رفضت التورط بمنزلقات التكفير، وفي الوقت نفسه أعلنت موقفها الصارم الواضح ضد هدر الدماء والعنف المسلح. ورغم خيبة البعض من رفض المؤسسة الدينية تكفير تيارات العنف السياسي، حيث وجدوا في هذا تأييداً مضمراً لتلك التيارات، إلا انه من ناحية أخرى يرى البعض بأنه تصرف حذر متوق، خشية دخول تلك الساحة المشؤومة والمضمار الذي استنزف الكثير من الدماء عبر تاريخنا، بعد أن أمضت ملل ونحل المسلمين جلّ سنينها وهي تتنابز وتتقاذف بكرة التكفير الملتهبة منذ زمن الفتنة إلى وقتنا الحاضر. وأعتقد أن التعفف عن التكفير هو خطوة إيجابية أولى ستفضي بنا إلى مساحات أكثر استجابة لتعايش العصر، وعملية استقراء سريعة لبيان هيئة كبار العلماء بعد حادثة الدالوة تجعلنا نلاحظ (استنكارها الشديد للحادث الإجرامي، يستحق مرتكبوه أقسىالعقوبات الشرعية، لما انطوى عليه من هتك للحرمات المعلومة بالضرورة من هذا الدين ففيه هتك لحرمة النفس المعصومة وهتك لحرمات الأمن والاستقرار وحياة المواطنين الآمنين المطمئنين وهتك للمصالح العامة، وما أبشع وأعظم جريمة من تجرأ على حرمات الله وظلم عباده وأخاف المسلمين فويل له من عذاب الله ونقمته ومن دعوة تحيط به). هذا البيان لم يتورط بالفرز العقدي، ومن هم الضحايا؟ والدوائر الضيقة المغلقة لعقيدة الولاء والبراء. حيث ذلك الفرز يأخذنا باتجاه تلك الدوامة السوداء المخيفة التي يوماً ما ابتلعت خيار صحابة رسول الله، ولأن التكفير هو (عفريت القمقم) المتمدد، سيبدأ بتكفير داعش والقاعدة، ولن ينتهي إلا بالوصول إلى جزيرة بورنيو في أندونيسيا، فالتكفير هو فكر استئصالي مدمر يعجز عن التعايش. وفي بيان هيئة كبار العلماء تم التركيز على الحرمة المغلظة للأرواح وعصمة الدماء والأموال والأعراض، مع التأكيد على الأمن والاستقرار وحياة المواطنين الآمنين، أيضا طالب بيان هيئة كبار العلماء بتنفيذ أقصى العقوبة بالجناة، تماماً كالقتلة ومهربي المخدرات وسواهم من الساعين في الأرض فساداً والمعتدين على الأمن القومي.. هم يظلون مسلمين ولكن لابد من الأخذ على أيديهم. وقد سار الأزهر الشريف في نفس الطريق عندما رفض تكفير داعش والقاعدة، لأنه كما للأزهر شيوخه المعتدلون، فلداعش جوقة من شيوخ المكفراتية الذين سيقومون بالواجب، وبالتالي لن ينتهي السجال. لذا إغلاق باب التكفير، وتقديم عصمة الدم والمال والعرض داخل المجتمع المدني، يوكل حفظ الأمن والاستقرار للدولة بسلطتها التنفيذية، وتغدو هي الجهة الوحيدة المعنية في هذا المجال، ولعلها خطوة أولى حول قوننة الشريعة، فحرمة الدماء لها الأولوية دوماً فيغدو هذا التأصيل هو الذي يؤسس عليه قانون مدني تحت مظلة الدولة الوطنية المستقلة عن تنابز المذاهب. ولاسيما أنه بحسب جريدة الوطن صدر في الأسبوع الماضي أمر خادم الحرمين بتشكيل لجنة شرعية موسعة لوضع مدوّنة أحكام شرعية لتكون نواة لتقنين الأحكام مستقبلاً بإذن الله، وهي تعتمد على قرار آخر لهيئة كبار العلماء صدر في عام 1431 وهي خطوة إيجابية أخرى تسعى لاستقلالية السلطة القضائية عن التنابز بين التيارات السياسة والإعلام والتناحر المذهبي والفكري. وسوى ذلك رفض التكفير أعتقد بأنه خطوة إيجابية تحسب للمؤسسة الدينية التي استجابت لحساسية وخطورة المرحلة في حرب استنزافية طويلة مع حواضن الإرهاب. لمراسلة الكاتب: [email protected]