هناك تعبير شعبي فصيح وجميل وعميق الدلالة:(الله يعين عليها بخير..) يقال بين الحين.. والحين.. وخاصةً حين تذكر الدنيا.. أو توصف المصاعب.. أو يتوقع الناس شراً.. أو تجد المصائب.. وأكثر من يردد تلك العبارة أو ذلك الدعاء هم الرجال المسنون الذين عركوا الدهر وعرفوا الدنيا ومرّ بهم في أعمارهم الطوال مصاعب ومصائب ومفاجآت لم تكن في الحسبان. والضمير في (عليها) يعود على الدنيا التي لم تذكر صراحة في العبارة، لكنها عادة تكون مفهومة من السياق، فهي - العبارة - تأتي رداً أو تعليقاً أو تعقيباً على كلام عن الدنيا وبلاويها وما يجري فيها وما الذي يتوقعه العقلاء والمجربون منها وبماذا يتوقون بما يتوقعون.. إنهم يتوقون حوادثها برفع أكف الضراعة إلى الله - جل وعزّ - أن يعين عليها بخير، وهو السميع المجيب، والدعاء مخ العبادة، ويبعث الطمأنينة في القلب، والسكينة على النفس، ويمنح صاحبه صفاء الذهن فيستطيع - بإذن الله - أن يتخذ القرار الصحيح السليم وأن يعمل الواجب في الوقت المناسب. ولا يقتصر هذا الدعاء الحكيم على الأمور المادية وضائقاتها، بل لعلها من أهون الأمور على أهميتها، فهنالك من أهوال الدنيا ومفاجآتها ما تشيب له رؤوس الولدان. والشعراء تأملوا طويلاً في أحوال الدنيا، وعجائب الليالي والأيام، وما تحمل من مفاجآت، وما يحدث من تغيرات، فقالوا في ذلك الكثير عن تجربة ومعاناة. يقول حميدان الشويعر: الأيام ما يجري لهن رجوع غدت بخلان لنا وربوع ربوع لنا قد فرّق البين شملهم وشوف الديار الخاليات يروع مَرَقت من الدنيا بيوم وليله واعد اسبوع من وراه اسبوع وسود الليالي ما دري عن بطونها يمسن حوامل ويصبحن وضوع أنا ادري بعلم اليوم وأمس بما جرى وباكر بغيب والأمور وقوع والايام لو تخلف بيوم عذرتها لهن بالليالي الماضيات صنوع أجارني ربي خيارها عن شرورها علوم الردى يأتي بهن ربوع وهذا صحيح.. فخبر الشر له أجنحة.. ويقول ابن هانئ الأندلسي: إنا - وفي آمال أنفسنا طول وفي أعمارنا قصر - لنرى بأعيننا مصارعنا لو كانت الألباب تعتبر خرست - لعمر الله - ألسننا لما تكلم فوقها القدر فالآجال تطارد الآمال.. الآمال طويلة والأعمار قصيرة.. وكل الذين في المقابر عندهم آمال لم تتحقق.. وحاجات لم تتم: نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنتهني تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي وأصدق ما يقال هنا ما ورد في الأثر: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا..واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.. والنبراس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خبر، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم. وما أجمل قول أحمد شوقي: ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا تسرب في الدموع فقلت ولى وصفق في الضلوع فقلت ثابا ولو خلقت قلوب من حديد لما حملت كما حمل العذابا ولا ينبيك عن خلق الليالي كمن فقد الأحبة والصحابا فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا فلم أر غير حكم اللله حكماً ولم أر دون باب الله بابا وأن البر خير في حياة وأبقى بعد صاحبه صوابا ومن عاش طولاً رأي عجباً.. دول تسقط دول تقوم.. أمم تحيا وأمم تموت.. أحداث لا يتوقعها ولا يتصورها ولكنها تقع أمام عينيه حتى يملأه العجب الذي عبر عنه المتنبي ببيت واحد: ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت على عينيه حتى يرى صدقها كذبا وللخلاوي راشد: ولا صحة الإنسان تبقى على المدى فلا بد من بلوى ونوبات نايبه فصبراً على خبث الليالي وطيبها فلا عاد صبار أياديه خايبه ترى الصبر مفتاح للأفراج كلها ولو هو عند الذوق مر عواقبه والله يعين عليها بخير.