في التاسع من كانون الأول ديسمبر 2014، عقدت في الدوحة القمة (35) لأقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي. المتغيّر الأهم الذي عقدت في ظله هذه القمة هو متغيّر الأمن الإقليمي. وهو قد بدا ضاغطاً على كافة بلدان الشرق الأوسط، بما فيها أقطار الخليج العربي. إن متغيّر الأمن الإقليمي الذي نحن بصدده ليس متغيّراً تابعاً، بل مستقلاً بالضرورة. وهو عبارة عن توليفة مركبة أو مندمجة من المفردات السياسية والميدانية، ومن معطيات الداخل، وحسابات الخارج المتجه إلى هذا الداخل. في هذا المتغيّر، ثمة أبعاد جلية، واضحة للجميع، وأبعاد أقل بروزاً، وإن لم تكن بالضرورة أقل أهمية. لا بد من الإقرار بأن الإرهاب في سورية قد خرج عن نطاقه المحلي، وبات إقليمياً، مباشرة أو مداورة. وهو يقترب اليوم من كونه تحدياً عالمياً، وربما قد أصبح كذلك بالفعل. وإذا كان أحد في هذا الشرق ينشد أمناً إقليمياً مستقراً، فعليه أن يعي بأن ذلك يبدأ بالضرورة من حلب ودير الزور والقنيطرة تُمثل المسألة السورية المتغيّر الأكبر في منظومة الأمن الإقليمي. وهي ذات مفاعيل حادة وعميقة الأثر، إلى الحد الذي يُمكن القول معه إن الأمن الإقليمي للشرق الأوسط بات مرتبطاً، على مستوى الصيرورة والمصير، بمستقبل الأمن في سورية. والأمن في سورية ذاتها مرتبط بما يُمكن للسوريين أنفسهم تحقيقه على مستوى التسوية السياسية، التي تبدأ منطقياً عبر تأكيد مسار المصالحات المحلية وتعميم نموذجها، وتوسيع خارطة انتشارها على مستوى الجغرافيا الوطنية. ومن دون هذا المسار، فإن أية مقاربة للاستقرار في سورية لن تكون سوى استغراق في الوهم، وإضاعة للجهد والوقت معاً. فلقد خسرت سورية خيرة شبابها وثُكلت عوائلها، ولم تسلم من الإرهاب حتى مدارس أطفالها، فقد جرى تفجير العبوات الناسفة على أبوابها، كما حدث في مدرستي عكرمة في حمص. هناك قوى ظلامية، شريرة ومرتدة، لا تريد خيراً لحاضر سورية ومستقبلها. وهي تعتدي كل يوم على السوريين، بمختلف فئاتهم الاجتماعية والدينية، ولا تستثني من إرهابها أحداً. هذه القوى الظلامية، التي تقتل الآمنين في الرقة ودير الزور وسواها من المناطق السورية، تحرك بعض منها مؤخراً لينقل إرهابه إلى الداخل الخليجي، محاولاً نسف التعايش الأهلي طويل الأمد بين مكوناته الاجتماعية والثقافية، التي مثل انسجامها واندماجها أساس الاستقرار وجوهره. وهذا التطوّر الذي حدث في الخليج هو منعطف خطير في مسار أمنه الإقليمي، لم يُعهد له مثيل منذ أن كان بالمقدور الحديث عن مسمى الأمن الإقليمي. عند هذا المنعطف، لا بد للجميع من التفكير ملياً في الحيثيات والمآلات، وعدم الاكتفاء بالخطاب التقليدي. وهذا الجميع الذي نقصده هنا هو الشرق الأوسط برمته، كما القوى الدولية الفاعلة فيه، والتي ترى في أمنه جزءاً من أمنها القومي، ومصالحها الجيوسياسية كونية الطابع. لا بد من الإقرار بأن الإرهاب في سورية قد خرج عن نطاقه المحلي، وبات إقليمياً، مباشرة أو مداورة. وهو يقترب اليوم من كونه تحدياً عالمياً، وربما قد أصبح كذلك بالفعل. وإذا كان أحد في هذا الشرق ينشد أمناً إقليمياً مستقراً، فعليه أن يعي بأن ذلك يبدأ بالضرورة من حلب ودير الزور والقنيطرة. وإذا كان الإرهاب يفتك بالناس هناك كل يوم، فهذا يعني أن قوى الشر والتطرف لازالت ناشطة، وأن بمقدورها نقل الإرهاب إلى أي قطر من أقطار العرب، أو ما هو أبعد من ذلك. والخليج لا يُمكنه أن يغدو استثناءً من هذه المعادلة، وأي رهان على هذا الاستثناء هو بالضرورة رهان خاسر، بل لا قيمة له في الأصل. والأكثر من ذلك، فإن الساحة الخليجية تمتلك من الأرضية والحيثيات ما قد يكون منفذاً لقوى التطرف والضلال. ولننظر قليلاً إلى الوراء ونرى ماذا حدث. هناك واقع لا بد من الاعتراف به اعترافاً بناءً ومسؤولاً. وهذا النوع من الاعتراف هو الخطوة الأولى على طريق المعالجة، وتصويب المفاهيم المغلوطة، التي جعلت من الدين أداة إرهاب توّجه ضد كل من يحمل رأياً أو فكراً مغايراً. ولنسأل أنفسنا إلى أين نحن ذاهبون؟ وماذا نحن فاعلون مع هذا الكم الكبير من منابر التحريض على العنف والكراهية؟ ولماذا يسمح البعض لنفسه بأن يجعل من مقاربته للأزمة السورية منطلقاً لنشر الفتنة في المجتمع الخليجي وضرب مكوناته الثقافية ببعضها، واستحضار بذور الشر إلى كل شارع وحارة؟ وهل هذا يا ترى سلوك ديني أو قومي، أو هل فيه ذرة من الوطنية؟ وفي الأصل، علينا أن نكون واقعيين مع أنفسنا فيما يرتبط بتقديرنا لمفاعيل الأزمة السورية على الشارع العربي. إن سورية حاضرة في كل بيت عربي وفي كل عائلة عربية. وتمزيق وحدتها الوطنية، ونسيجها الاجتماعي، يعني بالضرورة تمزيقاً للنسيج الاجتماعي العربي. ومرة أخرى، فإن الخليج العربي لا يُمكن أن يغدو بمنأى، أو يكون استثناءً. وأي قول بالاستثناء هو خداع للذات، واستهتار بعقول الناس. ليس هناك من هو محصن من الارتدادات. والأمن الإقليمي ليس نسقاً جغرافياً بل فضاء جيوسياسي. وبهذا المعنى، تصبح حلب حاضرة بالضرورة في بغداد والكويت والقاهرة ومراكش. وأمن الخليج يتأثر باستقرار حلب، وهو ينتكس بالضرورة بانتكاسها. وإذا انشطرت حلب انشطر هذا الخليج، وغرق في تناقضاته التي يدركها الجميع. وإذا تصالحت مع ذاتها، واستتب أمنها، فسوف يكون ذلك سبيلاً لإنتاج معادلة سورية وإقليمية جديدة يربح فيها الجميع، بما في ذلك الخليج ذاته. وتعالوا نرى كيف كان مسار العقود القليلة الماضية على صعيد منظومة التأثيرات؟ بالأمس، شكل التقارب السوري الخليجي ضمانة لأمن لبنان، وحد من مستوى الخلافات الخليجية الإيرانية، أو في الحد الأدنى منعها من التضخم على حساب المصلحة العربية. وكانت غالبية دول الخليج ترى في سورية قوة راجحة في معادلة الأمن الإقليمي، تهب لها شعوراً بالتوازن، دونما تسلط أو ارتهان. وأنا أقول هذا وأدرك تماماً ما أقول. ومن جهة أخرى، كانت سورية أحد أكبر مصدري الغذاء للخليج، وقد وهبت للخليجيين هامشاً كبيراً في المفاضلة والاختيار، وعلى الأخص نتيجة للقدرة التنافسية الكبيرة للسلع الزراعية السورية ورخص أسعارها، على اختلاف أنواعها. والأكثر من ذلك، فإن خط الشام -الحجاز - كان، حتى بضع سنوات مضت، أكبر خطوط التجارة الإقليمية في هذا الشرق وأهمها على الإطلاق. لقد كان مساراً نموذجياً للبضائع السورية والتركية وقسماً لا يستهان به من الأوروبية الشرقية. واليوم، خسر الخليجيون كل ذلك، وخسرت سورية هي الأخرى تجارتها الإقليمية. والنتيجة أن المواطن الخليجي بات يشتري بعض السلع الغذائية بثلاثة أمثال سعرها الذي كانت عليه قبل الأزمة السورية. ومن ربح من ذلك يا ترى؟ ربما هناك من ربح من الانهيار التام والفظيع للعلاقات السورية الخليجية التي كانت يوماً ما ركيزة الأمن القومي العربي. لكن الأكيد هو أن الخليجيين ليسوا هم من ربح، وليس العرب أيضاً. هذا الشرق هو اليوم شرق مترد، تهيمن عليه الفوضى المدمرة. وربما تكون سورية وشعبها العربي في مقدمة ضحايا هذه الفوضى، لكنها ليست الضحية الوحيدة. فالعرب جميعهم ضحايا فعليون، أو مؤجلون. هناك من خسر المال والثروة، وهناك من خسر أمنه الداخلي، وهناك من خسر مصداقيته، وهناك من استنزف رأس ماله السياسي. ولكن الأهم من ذلك كله هو أن المواطن العربي قد تشظى وضاع، وكانت التيارات المتطرفة المستفيد الوحيد من ضياعه. دعونا اليوم نبحث عن ذاتنا القومية، ونعيد اكتشافها. دعونا نوقف هذا النزف الفكري، الذي تحوّل إلى نزف أمني وسياسي، ودعونا نعيد تشكيل سلم أولوياتنا القومية، التي ضاعت وتاهت، كما المواطن العربي ذاته. إن التيه الفكري والسياسي الذي سيطر على قطاع واسع من الشباب العربي، هو الذي جعلهم وقوداً لتيارات التطرف والضلال. وفي الوقت الذي كانت الخطابات اليومية في المساجد تدور عن التقوى والدفاع عن المسلمين، كان السلوك العملي على الأرض نقيضاً تاماً للتقوى. لم يكن هذا السلوك سوى تفجير الأطفال في حلب وحمص بالعبوات الناسفة، وقصف دور العبادة، وقتل كبار علماء الدين. وماذا عن مئات الشباب الخليجي الذين قتلوا في المعارك بين جبهة النصرة وتنظيم "داعش"؟ هل لأجل ذلك كانت الخطب اليومية في المساجد؟ والأكثر من هذا كله، فإن بعض من سيق بهم إلى أتون اللهيب السوري، قد امتهن الفتنة ونشر الفرقة بين السوريين، ونصب من نفسه رجل علم وفتوى، دون أن يكون أهلا لذلك من قريب أو بعيد. وفي وقت لاحق، فرض هؤلاء جهلهم على الناس بقوة النار والحديد، فجلدوا النساء والفتيات في الحسكة ودير الزور، وأعدموا الأطفال اليافعين في حلب، وأقاموا دويلة الظلام والعبودية في الرقة. هل هذا ما يريده الشعب السوري ممن يزعمون زوراً الدفاع عنه؟ بالطبع، هؤلاء ظلموا سورية بظلاميتهم، المعطوفة على فظائعهم الأمنية المتنقلة. من كان يريد خير سورية فليدعم مسار وفاقها الوطني، بقلمه أو موقفه السياسي، أو عبر علاقاته بالفرقاء المختلفين. وإذا كان هناك من يرغب في مساعدة السوريين إغاثياً، فليذهب إلى الأردن أو لبنان أو مصر ويقدم مساعداته للهيئات التي تعنى باللاجئين. وهذا يكفي. وفي الأخير، فإن أمن الخليج لا يُمكن فصله عن أمن سورية القومي، بل لا يُمكن فصله عن أمن المتوسط برمته. وعلى المهتمين بهذا الأمن، داخل المنطقة وخارجها، أن يدعموا مقاربة الحل السياسي للأزمة السورية. وهذا هو درب الاستقرار، ولا شيء سواه.