إن توفر الماء في المكان يشجع على الاستقرار فيه، بل هو أساس السكنى، وبدونه لا يمكن قيام حياة، ولهذا لا يقوم الاستقرار والعمران إلا في مكان يوجد فيه ماء أو ينقل إليه بسهولة، وكان سكن قبيلة جرهم على ماء زمزم أول عمارة مكة حيث وجدوا هاجر وابنها إسماعيل عند الماء تحوم عليه الطير، فضلا من الله للمكان وأهله وبركة. وقد قامت معظم البلدان في صحرائنا على جوانب الأودية التي نراها اليوم جافة وتجري عند هطول المطر، فكل ما نمر به من قرى ومدن وتجمعات في بلادنا واقعة على ضفاف الأودية الصحراوية التي تجري في فصل الأمطار وهو الشتاء والربيع في وسط وشمال الجزيرة، وأيضا في الصيف في جنوبها والجنوب الشرقي. وأما البدو الرحل فإن المكان كله مهيأ للبقاء الموقت حيث يستفاد مما تنبت الأرض ومن مياه الغدران في الشتاء والربيع لحياتهم ولغرض الرعي، دون الاستقرار الدائم بالطبع، إقامة مرتبطة بالموسم المطير متى ما أسقت المكان مياه الأمطار واخضرت الأرض بالأعشاب ووفرت الغذاء لحلالهم من الإبل والغنم، وبقيت في الموارد بقية من ماء للشرب (الموارد هي: الحسي، القلتة، الثغب، مياه النز من الجبال، ومياه الآبار والدحول والغيل والعيون وغيرها). عسى الله يجيب السيل يلحق على الزراع مادام السواني طيبات بها شله وهذا الارتباط المتلازم والدائم بين الماء والحياة وضرورة توفره جعل الهاجس فيه يسبق كل تخطيط، والتفكير في توفره يهيمن على البقية مهما كانت درجة أهميتها فهي ليست أهم من الماء. من هنا تولد الشعور الحقيقي بالفرحة عند رؤية السحاب وهطول المطر أو رؤية جريان الأودية، حتى أن لمعان السراب من بعيد يفرح الناظر إليه، باعتباره شبيها بالماء، وهذا الشبه هو الذي يجعل الأنظار تتجه ناحية لمعانه. ولقد كان أجدادنا ولا تزال أجيال بعدهم رجاؤهم في الله وحسن الظن به عز وجل يستغيثون كلما طالت فترة الجفاف طلبا للمطر، يصلون صلاة الاستسقاء كلما بدت الحاجة سنّة ورغبة وطاعة وعبادة. ومما ينقل عن السابقين من مواقف تدعو للتأمل و تتضح الثقة في عطاء ربهم، أنهم في اليومين أو الثلاثة التي تسبق صلاة الاستسقاء يذهبون لمزارعهم ينظفون مجاري السيل، ويتأكدون من سلامة الشعاب، ويهيئون مداخل الماء وتوزيعه، كما يتفقدون سطوح منازلهم، وفتحات المثاعب التي هي المرازيم مخارج الماء من السطوح، لتكون خالية من أي شيء قد يعيق العبور للماء، مثل عش العصافير أو أوراق الشجر وما شابهها مما جرت العادة تراكمها بين فترة وأخرى، خوفا من احتباس الماء في سطوح الدور الطينية فتسقط أو تخر عليهم على هيئة ما يسمى (واكف) وهذا الاهتمام والثقة والظن الحسن في الله مع رحمة الله، هو سر القبول عند استغاثتهم وطلب الغيث من ربهم وسقياهم وعدم يأسهم، فهم لا يقدمون الدعاء تجريبا ولا يحضرون لمصلى العيد مجاملة أو مظهراً و تفاخرا بالمراكب والمراكز واللباس والقوة والعظمة، بل يحضرون ونفوسهم متواضعة وانكسارهم متأكد بين يدي الله عز وجل ولديهم ثقة أنهم سيعودون إلى مزارعهم وقد استجيب لهم وبالفعل يحصل لهم كل خير. وقد أعطونا وقدموا لنا من خلال سلوكهم وأسلوبهم في حياتهم كلها قدوة من خلال تطبيق عملي قاموا به وليس كلاما يقال. وتظهر بساطتهم بعد نزول المطر، سواء في ليل أو نهار، فيرى التعاون بينهم، فالعديد منهم يبادر لمراقبة السيل وجريان الماء، فيأخذ الواحد منهم المسحاة، و يلبس على رأسه خيشة تحميه بعضا من المطر إذ لا يوجد غيرها، وفي الواقع هي لا تقي لابسها لكنه شعور فقط بأنه قد عمل شيئا له فائدة، وإلا فإن الواحد ما أن يدخل مع باب داره بعد جولة في الطرقات والمزارع والسكك وبعد الاطمئنان على أن كل شيء على ما يرام، إلا ويبدو كمن ظهر من نهر أو غطس في بركة ماء، لم تحمه تلك الخيشة من البلل ولم يسلم جسمه أو ثيابه من الرطوبة الشديدة وارتعاش أطرافه من البرد لكن يدفئ جسده نبضات قلبه الفرحة وكلامه معبر عن السعادة مع هذا وذاك وتناقل أخبار السيل. ومهما كثرت السيول وتوالت إلا أنهم بتعاونهم يقومون بتصريفها في مجاريها ووفق انحدار الأرض لكي تخرج من دار إلى دار عبر السطوح وفتحات تسهل العملية أو مع الأبواب، وتتجه حيث المنخفضات، أو ناحية جفر (جمع جفرة) في كل حي من أحياء القرية، وتكون الجفرة قد هيئت لاستقبال كميات الماء المتوقعة، كنوع من الأمان المؤقت وكسب الوقت لكي يتم فتح الطريق للسيل يخرج خارج البنيان، ويتم سد المعابر القادم منها السيل، بصخور تسمى في بعض البلدان (السلاسل) وهي صف من الحجارة تعمل سدا منيعا يصرف السيل إلى اتجاه آخر إجباري، وجميع أعمالهم ليست ارتجالية لا يتداولون الرأي فيها وقت المطر وحصول المشكلة، بل هي منظمة متكاملة كل يتحرك ويعرف ما الذي يمكن أن يعمله في حالة زيادة السيل وتهديده لمساكنهم. ولأن الإمكانات معدومة تماما في السابق، ولا يوجد سوى المسحاة في يد الرجل، إلا أنهم تغلبوا على مشكلات السيل بطرق شتى، وأولها توجيه بعض السيول للآبار، وتوفير معابر كثيرة جدا يعبر معها دون حواجز وعدم الطمع في مياه أكثر من حاجة مزارعهم، فهم يقدرون الكمية التي تكفي ثم يفتحون للماء الزائد عن الحاجة طريقه ليواصل الجريان و ينتفع به غيرهم في بلدان أو روضات أو فياض. ويقيسون قوة الأمطار من ضعفها بعبارة (صبت المثاعب) فصب المثاعب أو المرازيم يعني أن المطر قوي، وإلا قالوا: ما صبت المثاعب، وإنما رش خفيف. ليس هناك مقياس للمطر عند وصفهم الحالة بعضهم لبعض، وفي البر يقولون جرت الشعاب أو جرى الوادي، وهي كلها عبارات تعطي انطباعا عن قوة السيل وغزارته، ومن لديه جفرة تخزن الماء لأهل البلد يقولون: أبشروا امتلأت الجفرة. ومن عجيب خبرات الأجداد ولم يعمل به حتى الآن من أجيال اليوم، هو تعويض الماء الجوفي عن طريق فتحات الآبار، فالسيل لا ينتظرونه يتسرب مع القشرة والتربة إلى الطبقات لكي يتعمق في الأرض بالشكل الطبيعي والتقليدي، بل سمحوا لبعض الشعاب أن تتجه مباشرة ناحية بعض الآبار التي يرون أنها قادرة على توزيع الماء في الطبقات السفلية وتغذية الطبقة الحاملة للمياه التي عادة تكون قد فقدت الكثير من مخزونها، ويهيؤون الأسباب التي توصل الماء إليها بسرعة. وما دمنا بصدد الاستفادة من ماء السيول كمخزون أرضي نشير إلى الجفرة التي سبق القول عنها كمساعد للتخزين السطحي، وهي مساندة أيضا للمياه الجوفية،، وهي حفرة كبيرة تحفر أحيانا مصادفة، لأنها ناتجة عن أخذ الطين منها لبناء سور القرية وبعض البيوت حولها، وأحيانا تحفر بقصد صرف الماء ناحيتها صمام أمان، خوفا من زيادة الماء في داخل القرية وبين الدور الطينية فتلحق الضرر بالمساكن، وأحيانا تحفر باعتبارها عملا خيرياً يحقق تأمين الماء لأهل القرية بعد أن تمتلئ بماء المطر، فتكون مورداً مهما للسكان يشربون منها ويسقون مواشيهم ويستعملونه في أغراضهم كلها. ولا أدل على ذلك من كونهم يستبشرون بامتلاء الجفرة التي هي مصدر الماء في فترة ما بعد انقطاع المطر، إلى فترة طويلة من الصيف الجاف. وأما الفرحة بالسيل فهي واضحة علاماتها على قسمات وجوه الصغار والكبار، وهي في الصحراء متوارثة من جيل إلى آخر، وما يسعد البعض من رعاة ومزارعين فإنه يسعد الجميع فالمنافع متبادلة والمصير واحد والمشكلة مشتركة، لكن فرحة أهل البادية بالمعلومات عن الأماكن البعيد والقريبة تأتي على حد سواء فهم يسألون عن السيل على أي بعد كان حتى ولو على بعد 200 و300 كيلو وأكثر. و لكن الحاضرة المستقرين في قراهم وبين مزارعهم سؤالهم عن السيل ومواضع سقوط المطر يكون عادة في محيط قريتهم ومسايلها وشعابها، وعلى بعد قريب لا يزيد في الغالب على عشرة كيلومترات. ومن ذلك واستشهادا عليه نشأ المثل الشعبي القائل [قريّب بدو] فالبادية بناء على ما تعود عليه من قطع المسافات لا يرون الأماكن مهما طالت المسافات بينهم وبينها بعيدة، بينما الحاضرة يرون المسافات وإن قصرت بعيدة.وكل ذلك بحكم التعود والممارسة، فالبادية يرحلون مشيا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب ، ينتفعون بالعشب و الكلأ والمياه هنا وهناك، يتبعون حلالهم من أغنام وإبل. ولكن الحاضرة يقيمون مستقرين بقرب آبارهم، ومتى ما قل الماء فيها أو جفت مستهم الحاجة وهلكت زروعهم وتعرض مصدر رزقهم للخطر. ويقلق المزارعون على إنتاجهم منذ طرحهم للبذور خوفا من انقطاع المطر لفترة يموت معها الزرع، فتكثر عليهم الديون ويزيد عليهم الفقر ولا يستطيعون تسديد ما عليهم. يقول الشاعر زيد بن عبدالله الهزاع: عسى الله يجيب السيل يلحق على الزراع مادام السواني طيبات بها شله واعزتي لك يالشريمي وبن هزاع إلى مات بعض الزرع والسيل ماعله وياحيسفا يابذرنا كان حبه ضاع وجانا العميل اللي يبي مطلبه كله عطانا ديانة كل خمسين بمية صاع عسى الله يعين نقابله لي وصل حله ولي جاء المزكي يخرص الزرع مايرتاع يشوف اللقيمي سنبله ساجع ظله مع الحب والصما ندوسه بوسط القاع ونذراه، لاهب الهواء عيشنا هله قبل أكثر من ثلاث سنوات كتبت في هذه الزاوية موضوعاً بعنوان (هل تفسد الكتابة الشعر؟!) تطرقت فيها إلى الإشكالية الكبيرة في طريقة كتابة نصوص الأدب الشعبي بشكل عام في ظل غياب المنهج العلمي الذي يقنن هذه الكتابة ويضبطها فقد سارت طريقة كتابة النصوص في المخطوط من مجاميع الشعر النبطي القديمة بعشوائية تتجلى من خلالها عدم الدقة في الكتابة عموماً وإهمال التشكيل ولكل منها منهجه الإملائي الخاص لتأتي بعد ذلك الدواوين المطبوعة قديماً على نهجها لأن العديد منها ينقل عن تلك المخطوطات وربما نجد عذراً للمدونين الأوائل إذا علمنا أن غالبيتهم من العوام الذين ربما يجيدون القراءة والكتابة ولكنهم يجهلون قواعد الكتابة الصحيحة وهو ما يجعلهم يرتكبون أخطاء إملائية فادحة ربما تتسبب في نقل المعنى أو إغلاقه أو إساءة فهمه!! ومن الأخطاء التي يلاحظها المشتغلون بالأدب الشعبي أو المحققون لمخطوطاته بكثرة على سبيل المثال وليس الحصر: ناصر الحميضي 1 إدماج بعض الكلمات مع بعضها وكأنها كلمة واحدة مثل (أدعي لك) التي تكتب (ادعيلك) أو ضم الأدوات وحروف الجر مع الكلمات التي بعدها مثل (إن كان) تكتب (إنكان) وقد تجد جزءاً من كلمة قد اتصل بكلمة مجاورة أو انفصال أجزاء الكلمة الواحدة عن بعضهما فيظن أنهما كلمتين مختلفتين مثل (هماليل) قد تكتب (هما ليل). 2 كتابة الكسرة المشبعة ياء بكل بساطة وخاصة حين تأتي في كلمات القوافي ف(عاش) تكتب (عاشي) و(عام) تكتب (عامي) و (كفيل) تكتب (كفيلي). 3 عدم التفريق بين المقصور والممدود وكتابتها كيفما اتفق دون التزام الأصل الفصيح للكلمة!! ف(سعى) تكتب(سعا)، و(رمى) تكتب (رما)، و(اليتامى) تكتب (اليتاما). 4 الخلط المتكرر بشكل مستمر وغير مقبول بين الظاء والضاد ف(الظعينة) ترسم (الضعينة) و(النضا) ترسم (النظا)، و (الظل)كتبت (الضل)!! 5 عدم التفريق بين الألف المقصورة وبين الياء وكأنهما حرف واحد ف(العذارى) مثلاً ستجدها تكتب (العذاري) وربما كتبت (العذارا). 6 عدم التمييز بين السين والصاد في كثير من الكلمات حيث تكتب السين صاداً في العديد من الكلمات دون إعمال لأصلها فمثلاً (السخاء) تجدها ترسم (الصخا) أو (الصخى). 7 عدم التفريق بين التاء المربوطة والهاء فهو في الغالب الأعم يكتب التاء المربوطة هاء حيث تكتب (الجزيرة،الرسالة، قوية) هكذا (كثيره، الرسالة، قويه). 8 بشكل عام هناك إهمال لرسم ألف واو الجماعة مثل (قالوا) رسمت (قالو) أو (مشوا) رسمت (مشو). 9 الخلط بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة في عديد من المواضع مثل (الوشاة) رسمت (الوشات). 10 عند ابتداء الكلمة بساكن بشكل عام يرسم ألفاً أمامها وهذا مثل (ظلال) تكتب (اظلال) 11 كتابة التنوين نوناً بشكل عام ويظهر ذلك جلياً في عدد لا يحصى من المصادر. والحقيقة أنه رغم انتشار العلم وانحسار الأمية وانتقال الأدب الشعبي من الشفاهي إلى الكتابي حيث خصص له صفحات خاصة في الجرائد والمجلات ثم صدرت مجلات خاصة بالأدب الشعبي ثم برزت منتديات ومواقع الانترنت ثم نظمت لها المسابقات وأفردت له القنوات الفضائية بل قامت أكاديميات للعناية به إلا أن الكتابة لم تتطور ولم تلتزم قواعد وضوابط محددة أو طريقة موحدة في كل ما سبق الإشارة بل استمرت محافظة على كثير من عللها القديمة لا لشيء سوى أن القائمين على وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية لم يهتموا بذلك وتركوا موضوع الكتابة للشعراء أنفسهم فكل شاعر يكتب قصيدته بطريقته الخاصة ويرسلها فتنشر كما هي سواء في ديوان أو في جريدة أو في موقع إلكتروني والمتابعة لما يكتب الشعراء في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) تؤكد ذلك، ومن الملاحظات أيضاً أن بعض القنوات الشعبية تكتب نص القصيدة وتعرضه على الشاشة بالتزامن مع (الشيلات) وللأسف أنهم ربما شوهوا جمال الشيلة بقبح الكتابة المليئة بالأخطاء الإملائية الشنيعة!!