من يحب تصنيف الأفلام بين وثائقي وروائي سيصعب عليه تصنيف فيلم "عشرون ألف يوم على الأرض" "20,000 Days On Earth"، بل وحتى المزيج المعتاد بين الاثنين والمسمى "الدراما الوثائقية" لا ينطبق بالكامل على هذا الفيلم، فهو لا يحمل خطاً درامياً معيناً، كما أنه يحتوي على مقاطع من حفلات موسيقية، ولكنه ليس بالضبط فيلماً موسيقياً. كل ما يمكن قوله عنه هو أنه عمل فني مميز ومختلف, ولكنه يمكن أن يصنف مجازاً على أنه وثائقي والحقيقة أن الفيلم الوثائقي بات مؤخراً يحتمل مساحة عالية من التجريب تجعله يخرج عن الأطر المعتادة، ليدخل في فضاءات أكثر رحابة، وربما أحد الأمثلة على هذه الفضاءات الجديدة هو هذا الفيلم. يبدأ الفيلم والفنان الأسترالي المعروف "نك كيف" ينهض من سريره في الصباح، ليحكي وقائع متخيلة لمدة يوم واحد، وهو اليوم الذي يكمل فيه كيف عشرين ألف يوم على الأرض، كما يسرد في تعليقه الصوتي، أي أنه يبلغ من العمر 54 عاماً. ويحكي الفيلم من خلال أحداث هذا اليوم عالم الموسيقى والكاتب الأسترالي نك كيف الذي يؤلف الأغاني ويلحنها ويغنيها مع فرقة ذا باد سيدز وهو روائي وكاتب سيناريو أيضاً، وقد شارك مؤخراً في كتابة سيناريو فيلم "Lawless". ندخل عالم هذا الفنان الذي استطاع أن يبدع في مجالات فنية مختلفة، من خلال نص كتبه بالمشاركة مع مخرجي الفيلم إيان فورسيث وجين بلارد، وفيه يروي لنا بتعليقه الصوتي تأملاته وتساؤلاته حول معنى الحياة ومعنى الإبداع، أوالحقيقة والخيال في عالم المبدع. يقول إن عالمه هو ما يكتبه من أحداث، وما يعيشه مع شخصياته، وأنه يفاجأ بالعالم الآخر عندما يخرج. ينتقل كيف، ونحن معه، إلى أماكن مختلفة، ومنها الأستوديو، حيث نراه يجهز لألبومه الجديد "Push The Sky Away"، والذي صدر عام 2013، أي بعد عدة أشهر من تصوير الفيلم. يجول بسيارته في مدينة برايتون حيث يقيم في بريطانيا، ويتحدث عن علاقته بالمكان. هناك أيضاً مقاطع له وهو يتحدث مع ما يبدو أنه مقابلة، أكثر منه جلسة مع طبيب النفسي، ويتحدث فيها، عن طفولته وعن علاقته بأبيه بشكل خاص. ثم يلتقي بصديقه الموسيقي وارين إيليس، ويتحدثان عن حفل موسيقي شاركت فيه المغنية وعازفة البيانو الشهيرة نينا سيمون، ويستعيدان معاً صورتها وقد بدت خائرة القوى في كواليس المسرح، ثم شخصية أخرى غير عادية ممتلئة بالحماس والحيوية والجاذبية على المسرح. يبدو "كيف" مشغولاً بالشخصية الأخرى أو الوجه الآخر الذي يظهر للإنسان في حالات معينة ليكشف عن شخصية أكبر وأروع مما هو عليه هذا الإنسان في صورته العادية التي يظهر بها في حياته اليومية، والتي كما يقول "كيف" الشخصية التي نطمح دائماً أن نكونها. هناك تداعٍ لذكريات ومواقف من خلال صور يستعرضها كيف لنفسه ومقاطع له في بعض الحفلات حيث يؤدي مع فرقته على المسرح. كما نراه وهو يقود سيارته ويظهر معه في مشاهد مختلفة بعض الأشخاص، الذين عرفهم في حياته ليتبادل معهم حوارات، ومنهم الممثل البريطاني راي وينستون والمغنية الأسترالية كايلي مينوغ والتي سبق لها أن شاركت معه في أغنية "Where The Wild Horses Grow". يبدو الفيلم أشبه برحلة تأملية وخاصة مع سرد "كيف" الشعري، فنشعر كما لو أننا نطل من نافذة في وسط عقله ونراه من الداخل، وقد ساعد على هذا التصوير، فاللقطات كانت في مشاهد كثيرة لقطات مكبرة لوجه كيف وهو يتحدث، والتأطير أخذ شكلاً جمالياً في كثير من المشاهد. أما المونتاج، فكان فنياً جداً في التقطيع وفي التداخل بين اللقطات أحياناً وبطريقة يشير فيها المونتاج إلى نفسه، وهذا مناسب لطبيعة الفيلم فهو أشبه بمقاطع مختارة من حياة كيف، أكثر منها يوماً عابراً وإن كان اختيار اليوم هو إشارة رمزية لها. الفيلم حائز على جائزة أفضل إخراج لفيلم وثائقي وأفضل مونتاج من مهرجان صندانس وهو فوز مستحق. وقد نال جائزة الإخراج الثنائي إيان فورسيث وجين بلارد اللذين سبق لهما أن عملا في إعادة تمثيل بعض الأحداث المهمة ثقافياً ومع عدة فنانين، وقاما تحديداً بتعاون سابق مع نك كيف وفرقة ذا باد سيدز. ويبقى أن نقول إن الفيلم بتأرجحه بين الواقع والخيال هو انعكاس لبطله الذي يبدو اتصاله بالواقع محدوداً فيما يتواجد معظم الوقت في عالمه الخيالي.