في اليابان لا يتصدقون على المشردين، أو ما يطلق عليهم "home less" وهم الذين يعيشون بلا مأوى، متذرعين بأن هؤلاء فشلوا في الحياة وعليهم تحمل تبعات فشلهم! وصلت أمس، بعد رحلة مضنية وطويلة، للعاصمة اليابانية طوكيو. ومذ لحظة نزولي؛ بدأت أتفرس في معالم عاصمة هذه الدولة التي تغنى بها وبتجربتها كثير من المفكرين العرب، وكتب وتحدث عنها مئات الإعلاميين بما يشبه الشعر، وربما كانت (خواطر) الزميل أحمد الشقيري، عن اليابان من أشهر ما تحدث عن بلاد الشمس المشرقة. لا أود أن تصطف مقالتي هنا، لمئات بل آلاف المقالات التي تولّهت حبا، وانسابت ثناء على تجربة النهضة اليابانية، والتي تستحق ولا شك كل حرف قيلت فيها، فمن ذا الذي يحجب الشمس بغربال مهترئ، ولكن الروح العلمية تقتضي ذكر بعض مساوئ تلك التجربة وإفرازاتها، وهو ما لم ألمسه في كل الكتابات التي طالعت وقرأت، لذلك كنت حريصا منذ وصولي وأنا ألتقي بعض من عاش في هذه الديار، سؤالهم عن الجانب المظلم في هذه التجربة، كي يتوازن الحكم. لي يوم كامل ونصف فقط، وآليت أن أكتب انطباعي هنا ابتداء، وسأكتب ثانية - بإذن الله - بعد انتهاء زيارتي، وربما سأبدأ بالمطار الذي غشيته في "طوكيو"، فهو ليس بفخامة مطار "سنغافورة" ولا حتى "دبي"، وبالتأكيد مطاراتنا خارج القياس هنا، غير أن إجراءات السفر في مطار "نارينا" كانت سريعة جدا، وهذه النقطة مهمة لسعودي قضى أكثر من ثلاث عشرة ساعة متصلة في الدرجة السياحية لكي يصل. قدّر لي الجلوس، قبل كتابة هذه الأسطر بساعتين، مع بعض المقيمين العرب في طوكيو، بعضهم له أكثر من عقدين من السنوات، وبالطبع كانوا مولعين بهذه التجربة اليابانية، والعيش في هذه البلاد التي يعشقونها، وفاجأتهم بأنني لا أريد منهم ذكر المزايا، ولكن أود أن أستشرف منهم، وهم المثقفون، رؤيتهم للجانب الذي لم يذكره أحد من الذين كتبوا، فنظر أحدهم لي نظرة احترام، وقال: "نعم، هذه هي الروح العلمية التي ينبغي أن تذكر عند تناول التجربة". دلفت لصديقنا الذي قال بكثير من التفجع بأن أسوأ ما يراه في هذه البلاد، مسألة الانتحار، فاليابان بها أعلى نسبة انتحار بالعالم، والعام الماضي سجلت بها 30 ألف حالة انتحار، وعندما رفعت حاجباي دهشة، وبادرته بتعجب شديد، مستفهما عن السبب في ذلك، وأنا أرى هذا الرقي والنهضة في البلاد، أجابني بأن الضغوط النفسية العالية، ونمط الحياة هنا، فالشعب يقدس العمل لدرجة العبادة، ولا يني الفرد الياباني من الانشغال الكامل بعمله، والجدية الكاملة فيه، ويغفل تماما الترفيه عن نفسه، لذلك تتناوشهم الضغوط النفسية، وتتجذر حتى يلجأ للانتحار. سألت صديقنا المقيم في اليابان، وأنا ما زلت غير مصدق، ومستحضرا المعدلات العالية للانتحار في الدول الأسكندنافية، وهي التي تولي الفرد هناك، أعلى درجات الرفاهية، عن الطريقة التي يلجأ لها اليابانيون في الانتحار، فأجابني أنهم كانوا يلقون أنفسهم أمام القطارات، ولكنهم أقلعوا عن ذلك، وتوجهوا لطرائق جديدة، والسبب أنهم فرضوا ضرائب باهظة لمن ينتحر عند عجلات القطار!. الأمر المزعج الثاني الذي تبرع صديق عربي آخر بذكره، وهو بالمناسبة عاش سنوات في الخليج، وهو يتحدث عن التجربة اليابانية، تصنيم النظام. اليابانيون لديهم طاعة مطلقة عمياء وحرفية للنظام، وليست لديهم ثمة مرونة في تطبيق النظام، بمعني أنهم يرفعون شعار: "حرفية النظام لا روح النظام". ووقتما طلبت منه مثالا لهذه الصنمية التي يقول، أجابني بأنه في إحدى المرات، وقع حادث لابن السائق الذي يقله، وفي موقع الحادث طلب الإسعاف منه أن يأتي ليوقع لهم تفويضا بحمله، فأجابهم بأنه بعيد، وكي يصل يحتاج 45 دقيقة، وربما يموت ابنه، فرفض الإسعاف حمله حتى يأتي ويوقع الأوراق، والنظام لا يتيح لمن كان عمره أقل من 18 إلا عن طريق موافقة والده، ومضى الصديق في سرد قصة أهون منها، وحدثت له شخصيا، بأنه طلب من مطعم غذاء له، ولأنه في عجلة من أمره ارتأى أن يأخذ الطعام للبيت، ورفض مدير المطعم ذلك، مع أن النظام يتيح له أخذ باقي الطعام "تيك آوي"، فيقسم أنه اضطر للجلوس على الطاولة، ثم يضع النادل الطبق أمامه لدقائق ثم يأخذه كما هو ويغلفه، حتى انتهت "طلبيته"، وأخذها ك"تيك آوي" لا كطلب خارجي. كل هذا يهون أمام قصة فغرت له فمي، وقتما ذكر مقيم عربي ثالث بأنه تأخر على ابنته الصغيرة ذات العامين في أحد المرات، واتصل على الحضانة وأبلغهم بتأخره لساعتين، وترجاهم أن يرضعوها الحليب، فقالوا تأخرت في الطلب، يحدثني صديقنا هذا، بأنه فوجئ عندما أتى، ووجد كل الأطفال يتناولون وجباتهم، وطفلته منعزلة لوحدها، والحليب متوافر، ولكن لتطبيقهم النظام، فعلوا ذلك. صرخت وأنا أستحلفه بالله، إن كان من سرده صحيح، فكل أناسي العالم يقفون أمام الطفولة، ويسقطون المذاهب والديانات والعرقيات أمام الطفل، فأقسم لي بأن هذا وقع له في اليابان، وعندما استفسر منهم، أخبروه لأنه لم يطلبها الساعة الثالثة. ما لا تعلمون عن اليابان، أن عندهم المشردين، أو ما يطلقون عليهم "home less" وهم الذين يعيشون بلا مأوى، واليابانيون لا يتصدقون عليهم، متذرعين بأن هؤلاء القوم فشلوا في الحياة، وعليهم تحمل تبعات فشلهم، وتذكرت في كل هذا ديننا الحنيف، وما يأمرنا به من رحمة وصدقة تجاه أمثالهم. من الوجه الآخر الذي لا نعرفه عن اليابان، نقص المواليد عندهم، بل ثمة مدارس ابتدائية بدأت في إغلاق أبوابها، لأن تكاليف الحياة غالية جدا، فضلا عن أن عبادة العمل لدى الأزواج أفضت إلى قناعة بأن لا وقت لديهم لتربية أطفال، والأنكى من ذلك هو موضوع الطلاق، حيث تشير بعض الإحصائيات، بأنه في كل دقيقتين و13 ثانية يقع طلاق بين زوجين، في مقابل زواج لكل 47 ثانية ، ومن أهم الأسباب هو الانغماس الكلي في العمل. تعد مدينة طوكيو أغلى المدن على الإطلاق في العالم، وجاءت في المرتبة الثانية أوساكا اليابانية، والله أنني حمدت ربي ثلاثا على النعمة التي نعيشها في بلادنا، فرغم كل الملاحظات والأخطاء الموجودة، إلا أنه من لم يشكر الله على نعمه علينا، هو جاحد بحق. طبعا، كنت في شغف شديد، لمعرفة الذي حصل بعد إلغائنا لشركة الزيت العربية التابعة لليابان في المنطقة المحايدة ببدايات الألفية الميلادية، وقتما عرضنا عليهم مدّ شبكة القطارات التي تربط منطقتنا الشمالية بالشرقية، ولكن تأبى اليابانيون وقتها علينا، وظنوا بأننا أعجز من أن نوقف امتيازهم، فاتخذ ذلك القرار التاريخي بإعطائها لأرامكو، فأخبروني بأنهم طرحوا الموضوع في البرلمان الياباني لعدة جلسات لمناقشة أسباب الفشل، وساءلوا المسؤولين وفصلوهم، وجاءهم وقتها خاتمي ووعدهم بامتيازات وهللوا لها، ولكن سرعان ما تبخرت فرحتهم، إذ فرض الغرب حصاره على إيران، وفشلوا هناك أيضا. هناك جوانب أخرى مظلمة في التجربة اليابانية، لا يسع المجال لذكرها هنا، وكل ما سبق لا يحجب عظمة التجربة وريادتها، ولكن بما سبق وذكرت بأن التناول الموضوعي، يفرض علينا ذكر المحاسن والمساوئ، وينبغي علينا عدم الإيغال في جلد الذات، فلتلك المشاكل التي قالوا بها، حلول لدينا والحمد لله، بل لا نعاني من كثير منها. آمنت والله بأننا في نعمة عظيمة في بلادنا، وأن كل بلاد العالم بها من الأخطاء والمساوئ، فكفانا جلدا للذات. نقلا عن الوطن السعودية للكاتب عبدالعزيز قاسم