متشعب هو الحديث عن جلالة الملك فيصل رحمه الله وشيق.. فشخصية بقامة هذا القائد المظفر اكتنزت الكثير من السجايا الحميدة والمناقب الفريدة وخلد لها التاريخ بمداد من نور على صفحاته الخالدة العديد من المواقف الوهاجة المشرفة.. لذا فالمتحدث عنه مجبر على التعريج غير مرة على هذه المناقب وتلك المواقف ولعلنا سنقف في حلقة اليوم من هذه السلسلة المتواصلة عند جانب وهاج مشرف لهذا الفارس الأشوس والمقاتل المحنك يتمثل في غوصنا بين حنايا حياته العسكرية التي بدأت بمشاركته منذ نعومة أظفاره بجانب والده المؤسس في العديد من المعارك التي ساهم فيها جلالته بضراوة في لم شمل هذه البلاد تحت راية التوحيد بدءاً من معركة (ياطب) سنة 1336ه ومشاركته عام 1337ه بجانب اخيه الامير سعود في معركة وادي الشعبة لرد اعتداءات قبيلة شمر لتستمر مشاركاته وغزواته ومعها نجاحاته وانتصاراته التي بدأت في التجلي في حملته العسكرية التأديبية لعسير عام 1340ه التي سجلت علامة فارقة ونقطة مفصلية في حياة الفيصل العسكرية فضلاً عن ما لها من أهمية على الناحية الجغرافية لخريطة الدولة السعودية في ذلك الحين..!. لذا لن نسهب أكثر وسنصحبكم في جولة تاريخية إلى تلك المنطقة المتوترة والحملة المظفرة فإلى التفاصيل: تولى الأمير حسن بن عائض حكم عسير بعد جلاء الأتراك منها إلا أنه لم يكن محمود السيرة فثارت عليه ثائرة قبائل الجنوب خصوصاً قبيلتي قحطان وزهران وبدأت ترسل وفودها إلى الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن شاكية متذمرة جور أميرهم ومجانبته لجادة الصواب والسليقة فأرسل له جلالة المؤسس ستة من كبار العلماء لينصحوه ويدعوه إلى العودة إلى ما كان عليه أجداده فأعرض واستكبر ولم يستجب لهم ليرد عليه المؤسس بإرسال سرية من ألفي جندي بقيادة ابن عمه الأمير عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي في سنة 1338ه هزمت آل عائض وجنوده شر هزيمة في منطقة تدعى (حجلة) تقع في المنطقة الجنوبية بين خميس مشيط وأبها واقتيد الأمير حسن بن عائض وابن عمه محمد ذليلين إلى الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الذي عرض إمارة عسير على حسن بن عائض بالشروط التي تقيد بها أجداده إلا أنه رفضها قائلا : (لقد عادينا الناس ونخشى إذا أمرتنا أن يقوموا علينا ، ولكننا نكون معاونين لمن تأمرون أيدكم الله ، ولا تقصروا عنا من جهة الدنيا) فسمح لهما المؤسس بالعودة إلى بلادهما راضيين قريري العين بعد أن منحهما خمسة وستين ألف ريال ، فأقام الأمير محمد في أبها عند حاكمها شويش الضويحي في حين استأذن الأمير حسن بالسفر إلى (حرملة) متحججا برغبته في إحضار عائلته إلا أنه تحصن فيها بعد وصوله إليها وبدأ يدس الدسائس على الإمام عبدالعزيز قبل أن يعلن بمعية أخوه محمد العصيان واستعانا بالأموال التي قدمها لهم جلالة المؤسس لتجهيز جيش زحف لقتال أمير أبها الذي أخذوه أسيراً فسر كثيراً الشريف حسين بن علي حيث رأى أن الفرصة باتت سانحة لإثارة الفتن ضد الإمام عبدالعزيز فأرسل إلى قبيلة (شهران) وبقية قبائل الجنوب يأمرها بالعصيان وأغدق على آل عائض الأموال وأمدهم بالأسلحة ليتمكن الأمير حسن وابن عمه من بسط نفوذهم على عسير لمدة قاربت الشهرين ولعل ذلك يعود إلى انشغال جلالة الإمام المؤسس بمعاركه وغزواته التي سعى من خلالها إلى ضم حائل إلى الدولة السعودية. المهمة الجسيمة وبعد أن ثارت ثائرة الفتنة في عسير والتي تغذيها الأهواء الخارجية تارة من اليمن وأخرى من الحجاز فضلاً عن زعم الشريف حسين بن علي بتبعية الإقليم له وسعيه الحثيث لدعم الفتن وتغذيتها في سبيل التمرد والخروج على الدولة السعودية رأى جلالة المؤسس المعظم عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمه الله ضرورة إخماد نيران هذه الفتنة وضم الإقليم إلى الدولة السعودية الحديثة من جديد فأوكل هذه المهمة الجسيمة إلى ساعده الأيمن ونجله المغوار الأمير فيصل بن عبدالعزيز والذي كان قائداً حازماً ماهراً في فنون الحرب لم يغلب قط رغم أن عمره لم يتجاوز حينها الستة عشر عاماً إلا أن المؤسس عرف أن فيصلاً أهل لقيادة هذا الجيش والانتصار به وتأدية المهمة على أكمل وجه كونه يعرف الهدف الذي يسير إليه ومطلع على سمو المهمة المكلف بها فضلاً عن شجاعته وفروسيته وعبقريته وحكمته التي اكتشفها جلالة المؤسس في نجله منذ الصغر. فسار الفيصل رحمه الله على رأس جيش مدرار قوامه عشرة آلاف مقاتل منهم ستة آلاف من الجنود النظاميين وأربعة آلاف من عرب قبيلتي قحطان وزهران في العام 1340ه وبث عيونه لتستطلع لها أخبار آل عائض رغبة منه في أخذهم على حين غرة لتصله أنباء مفادها أن قبيلة (بني شهر) استجابت لإثارة آل عائض لها وباتت تناصره فضلاً عن تحالفها مع الشريف حسين لمهاجمة (بيشة) التي كانت تابعة للدولة السعودية ولم تكن تلك الأنباء سوى استدراجاً للفيصل كي يقاتل (بني شهر) رغبة من أعدائه في معرفة مدى حجم وقوة جيشه لتصله أنباء أخرى أكدت مهاجمة بني شهر لبيشة ووصولهم إلى أطرافها فاستشار الفيصل عدداً من كبار القادة المشاركين معه في الجيش فأشاروا عليه بضرورة الزحف بكامل الجيش إلى بيشة للقضاء على بني شهر إلا أن الفيصل خالفهم وفضل التريث في إرسال الجيش بكامله لأنه أيقن أن آل عائض يهدفون إلى استدراجه في معركة صغيرة ليتغلبوا عليه في معركة كبيرة يحددون وقتها وزمانها ورأى أن الجيش السعودي هو الذي يختار ميدان المعركة ويحدد موعدها ثم قرر إرسال كتيبة واحدة من الجيش السعودي لمحاربة بني شهر وبالفعل صدقت تنبؤات الفيصل فقد كانت تلك السرية كافية للقضاء على بني شهر وتشتيهم إلى السهول والجبال والوديان واستعادة (بيشة) من قبضتهم بعد أن تفرق شملهم. معركة حامية الوطيس وفي ذلك الحين كان الأمير حسن بن عائض يعسكر بجيشه في خميس مشيط قبل أن تصله أنباء بهزيمة بني شهر شر هزيمة أما جيش الفيصل فأدرك أن هذا القائد سيتبعه وأن قواته ليست بالقوات السهلة بتاتاً فخشي أن يداهمه الفيصل بجيشه على حين غرة في خميس مشيط فانسحب إلى (حجلة) ليستعد لهذه المواجهة الصعبة فوصلت أنباء انسحاب جيش آل عائض إلى حجلة فلم يمهلهم الفيصل فترة يلتقطون فيها أنفاسهم ويستعدون خلالها لنزاله فلحق به على جناح السرعة وباغتهم في حجلة حيث دارت بين الجيشين معركة حامية الوطيس دارت رحاها جالبة النصر المؤزر والمميز للفيصل المغوار وجيشه المدرار على الرغم من تنظيم جيش آل عائض وامتلاكه لأسلحة ومدفعية حديثة أمدهم بها الشريف حسين الذي دعمه أيضاً ببعض الضباط العثمانيين الذين استعان آل عائض بهم لوضع خطط المعركة إلا أن الإرادة الإلهية وقفت بجانب الفيصل وجنوده الذين تجلت شجاعتهم واتضحت بسالتهم في ميدان الوغى الذي طوعوه قسراً لصالحهم لتفر البقية الباقية من جيش العدو خلف قائده حسن بن عائض الذي هرب مهزوماً مخذولاً مخلفاً وراءه الجرحى والقتلى. فحرص الفيصل بن عبدالعزيز على الظهور بمظهر إسلامي تمسك خلاله بتعاليم الدين الحنيف واستن بالحبيب المصطفى عليه صلوات المولى وتسليمه وطبق تعليمات وتوجيهات والده المؤسس الإمام عبدالعزيز الذي كان حريصاً على سلامة الأهالي وتقديم السكن والمساواة في المعاملة فأمر الفيصل بمعالجة الجرحى وتطبيب المرضى ومدهم بالأغذية والأدوية وإحاطتهم بكل عناية ورعاية واهتمام فأكبر الأعداء شهامة الفيصل ونبله وكريم خلقه وعظيم سجاياه وسمو مناقبه فعزموا على الانضمام إلى جنوده لنشر دعوة التوحيد والإصلاح.