أول حديث سمعته من الفيصل عليه الرحمة والرضوان عن الشباب كان في نيويورك عام 1386 عقب زيارة رسمية لأمريكا في عهد الرئيس الراحل ليندون جونسون. وفي واشنطن، أثناء فترة الزيارة نظمت أجهزة الإعلام الأمريكية لقاء مع الفيصل رحمه الله في نادي الصحافة.. وكان اللقاء.. صفحة مشرقة من تاريخ الجهاد في سبيل استعادة الحق العربي، والدفاع عن عروبة واسلامية فلسطين.. بالبرهان التاريخي الصادق، والاستدلال المنطقي الناصع، ووضوح التحليل الاستقرائي المبين. وبعد انتهاء المؤتمر ثار هياج اليهود في كل الأجهزة والمرافق التي يهيمنون عليها.. وكان في برنامج الفيصل رحمه الله القيام بزيارة خاصة لنيويورك بعد نهاية الزيارة الرسمية لواشنطن.. واحتدم حقد اليهود.. وزاد ضجيجهم وصخبهم.. يحاولون بذلك أن يضيع صوت الحق في دوامات لجلجتهم، وأن يحول غبار الملاحاة والضلالة دون الرؤية الشفافة ذات الباصرة والبصيرة.. وفي نهاية الأمر.. يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.. وأفعالهم.. ودسائسهم.. وثقل ضغوطهم وضغائنهم!!. وكان من تصرفاتهم الشائنة أن ضغطوا على رئيس بلدية نيويورك المستر جون ليندسي ليلغي حفلاً تكريمياً للفيصل باسم سكان مدينة نيويورك.. وقد فعل!!. وبمجرد وصول الفيصل رحمة الله عليه إلى فندق (ولدروف استريا) حيث أقام.. تدفقت برقيات من المواطنين في نيويورك يرحبون بمقدم الفيصل، ويستهجنون ما عمله عمدة مدينتهم.. ويمقتون الأفعال السيئة وانعدام اللياقة فيما صنعه اليهود مع العاهل العاقل.. الوقور الجليل. ولعل معالي الأخ الشيخ محمد النويصر يتذكر كيف تجند كل موظفي المكتب الخاص الذي استعان بموظفي السفارة المراقبين من واشنطن، وموظفي المفوضية في نيويورك.. كيف تجند كل هؤلاء للرد على برقيات الترحيب التي كانت تنهمر معبرة عن حقيقة شعور وأحاسيس أهالي نيويورك.. من غير الحثالة اليهودية!!. ثم بدأت الوفود تترى للسلام على الزائر العظيم رحمه الله ترحب.. وتعتذر .. وكان الفيصل عليه الرحمات غواد رائحات يقابلهم بالود والسماحة.. وأجزل الشكران.. يتقبل تحياتهم وما يعتذرون منه.. وخير الناس أعذرهم للناس.. و(عاش من عذر) .. بل وأقولها بحزن مركوز بين الأضلع.. (رحم الله من عذر)!! ومن بين الوفود التي قدمت، فريق من أساتذة جامعة (هارفرد) أتوا من بوسطن للسلام.. ولكن طاب لهم المقام في رحاب الفيصل رحمه الله وتشعب الحديث في شؤون .. وشجون.. وقد ركز الأساتذة في الأسئلة على موضوعين.. واستطلعوا رأي الفيصل تغمده الله برحمته عنهما وهما عن الشباب.. وتجارب الحياة البرلمانية!! وقالوا: إننا نعاني من أمرين أحلاهما مر! ومن سيئتين بينهما وبين العقل مسافات غير متناهية... وفيما يبدو لانلمح لها حدوداً، ولانستشرف لها أبعاداً أو نهايات!! اننا نعاني من هذا الهيجان الشبابي العارم الهادر.. المهدور في دروب السلبية ومسالك اللامبالاة.. وشطحات الانحراف والغواية.. وانطلاقات التفسخ وجموح الانحلال، اهتماماتهم وصبواتهم تنحصر في الرفض، والغضب، والاحتجاج، والتمرد.. ثم التعطش للعدمية.. يدمرون ويتدمرون.. ويتفحم الضوء والتوهج .. ثم تتحول الطاقة إلى رماد!! ونعاني من التجارب البرلمانية التي أصبحت عازلاً بين القيادة والمواطن، والمهمة برمتها تحولت إلى احتراف.. ومساومات.. والمصلحة العامة آخر من يذكر.. بل في مواطن كثيرة.. لاتذكر أبداً.. الذي يسود هو مضغ الكلام.. وعلك الكلمات، وفي بعض الأحيان ملاحاة.. تحتد ثم تشتجر حتى تصل إلى معركة.. بالأيدي.. والتقاذف بالسباب والشتائم والكراسي!!. | ماهو الاصلاح الذي ترونه جلالتكم لهتين الظاهرتين؟ وقبل أن يبدأ جوابه.. التفت وكنت حاضراً.. وقال (أرجو أن تفرقوا عندما تتحدثون عن الشباب.. والتفرقة في التسمية فقط.. فاذا أردتم الحديث عن الشباب في العالم فقولوا (الشباب).. ولكن إذا أردتم الحديث عن الشباب في السعودية فقولوا (أبنائي).. وإذا قلتم ذلك فانني اعرف انكم ستتحدثون عن (الشباب في المملكة) وقال (هذه رغبة أرجو أن تحترموها أمامي على الأقل). قال هذه الجملة.. وهو يبتسم بحنان أبوي ويقطر محياه مروءة وحياء.. تشع من عينيه نظرات حزينة لست أدري عن خلفياتها شيئاً.. وما استطعت أن أعرف ماهي دوافعها.. كانت دائماً هكذا وحتى في أوج التفاؤل حتى أدركته الشهادة عليه تحية الرحمن. ثم قال (من أجل ذلك فقد أسندت جميع شؤون الشباب للأخ (القوي الأمين) فهد بن عبدالعزيز.. وما زالت الابتسامة على محياه.. وقال (هذا أخي.. وذا ولدي). ثم التفت إلى السائلين وقال (أحب أولاً أن اتحدث عن الشباب في السعودية.. ثم في العالم.. وأقلوا علي من العتبى إذا بدأت بالحديث عن شباب بلادي.. لأنهم أبنائي.. ولذلك فإنهم يستقطبون الاهتمام.. والرعاية .. والتفكير.. من التربية وحتى الانتظام في الخدمة الوطنية.. ان تربيتنا للشباب تقوم على ثلاثة أساسات وهي: العقيدة، والعلم، والعمل،.. ان ديننا الحنيف في التعبد وحدانية، وفي التعامل مكارم أخلاق.. فلا بد أن يكون مغروساً ثابتاً راسخاً في النفوس حتى يكون التجدد نسيجاً من العطاء والفضائل.. انني اعرف أنهم وثبة مستقبلية ولذلك لن نترك فيها مجالاً للمسافات الفراغية التي تمتلئ بالمصائد والفخاخ، والكهوف المظلمة والأقنية السقيمة المشبوهة الموبوءة التي تنزلق بالوثبة الى المتيهات الجديبة.. اننا لانريدهم مغزلاً في يد الصدف والأهواء، ولكن نريدهم أن يمسكوا بمغزل الزمن.. ليصنعوا الاصلاح والتطور، ولذلك فان الوثبة يجب أن تمتلئ بالعلم والعمل.. حتى نصل إلى واحات خصيبة!.. اننا نريدهم أن يتجذروا في أرض القداسات بأصول ثابتة.. ثم ينطلقوا إلى آفاق الفكر والمعرفة الرحيبة.. يتفرعون من كل روض صالح.. ويتزودون من كل منهل نافع.. ليعودوا شلالات اصلاح وضياء.. وسواعد تطوير وبناء.. اننا نحرص على أن نجنبهم خداع السراب لتكون الكلمة ذات معنى واضح، ومدلول سليم، لقد ذكرتم الرفض.. والتمرد.. والاحتجاج.. والغضب.. هذه الكلمات يجب أن تستعمل في مواضعها. اننا نرفض.. ولكننا نرفض كل شيء يتعارض مع ديننا.. وكريم مواريثنا .. وأصيل تراثنا.. ومكارم أخلاقنا. اننا نتمرد.. ولكننا نتمرد على الباطل.. وعلى الزيغ والضلال.. والفساد والفواحش. اننا نحتج .. ولكننا نحتج على العدوان.. وعلى اهدار ما يصان.. وعلى التسيب فيما يوجبه الانضباط.. وعلى الميوعة التي تريق صلابة الرجولة. اننا نغضب.. ولكننا نغضب للحق إذا تعرض للضياع أو تعرض له الاعتداء. نغضب للكرامة ان حاول أحد اهانتها.. نغضب للمقدسات إذا أراد أحد أن ينتهكها.. أو يلوثها. وقبل كل ذلك نغضب لدين الله.. ان اجترم في حقه أحد.. أو اجترأ عليه أحد.. أو تجاوز حدوده أحد!! ثم هنالك كلمة كثر تداولها.. لبريقها ولمعانها ورنينها.. هذه الكلمة هي (التغيير) فما معناه؟. التغيير كلمة مجردة تحتمل أن يكون إلى أحسن أو إلى اسوأ، وقد انتزعت هذه اللفظة من قواعد التطور الأربع واستخدمت مبتورة للاغواء والتغرير. ان التطور له أربع قواعد وهي: الدفع .. والتفاعل.. والتغيير.. والاصلاح. هذا هو التطور وكل شيء فيه محكوم بالاصلاح حتى تكون المسيرة تصعيداً للكمال وليست هبوطاً في مناجم التخلف والاحباط.. أو تدنياً إلى الدرك الأسفل من السفه والضياع. أيها الأخوة الشباب.. ان حديث الفيصل لم ينته بعد، واحببت أن تكون الحلقات في مساحة مربوطة بسهولة الاستيعاب!! فإلى حلقة قادمة، ان شاء الله. ولكن قبل أن اختتم هذه الحلقة أود الاشارة إلى أن أحد الأساتذة استأذن في السؤال، وقال.. يا صاحب الجلالة، هل يعلم الشباب في بلادكم بهذه الأفكار.. وبما ترسمونه في سبيلهم..؟ فابتسم الفيصل رحمه الله في تواضع كعادته.. وصمت قليلاً.. ثم وفي هدوء رزين.. وتأمل حزين.. قال: (اننا نحب أن ننمي في شبابنا قدرة التمييز حتى يلمسوا بأنفسهم ماذا نريد بعد الله لهم.. يكفي أننا نعمل من أجلهم.. واننا نعتبر تحصين شبابنا بالعقيدة وتجنيبهم المزالق هو شعبة من الجهاد الذي نذرنا أنفسنا له)..! وقد استشهد الفيصل، وراية الجهاد خضراء خفاقة في يده.. يرحم الله فيصلا والموكب يسير وقافلة الحضارة والتطور تحث الخطى نحو الغاية الكريمة والأهداف الشريفة ونشيدنا (العدل والخير للجميع).