قال إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور سعود الشريم في خطبة الجمعة امس إن مما يعزز مكانة المرء المسلم وصدق انتمائه لدينه وثباته على منهج النبوة ثقته بنفسه المستخلصة من ثقته بربه وبدينه ، فالمسلم الواثق بنفسه إنما هو كالطود العظيم بين الزوابع والعواصف لا تعصف به ريح ولا يحطمه موج ، وهذه هي حال المسلم الحق أمام الفتن والمتغيرات ، يرتقي بدينه من ثبات إلى ثبات كلما ازدادت الفتن وادلهمت الخطوب ، وهو أمام ذلك كله ثابت موقن لا يستهويه الشيطان ولا يلهث وراء كل ناعق ، حاديه في هذا الثبات سلوك طريق الهدى وإن قل سالكوه ، والنأي عن طريق الظلال وإن كثر الهالكون فيه ، وبمثل هذا المنهج يصبح المؤمن ممن وعى حديث النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أمته بقوله (لا تكونوا إمَّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم أن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا) والإمَّعة هو الذي لا رأي له فهو يتابع كل أحد على رأيه ولا يثبت على شئ ضعيف العزم كثير التردد قلبه محضن للدخل والريب. وأضاف بقوله : ألا إن من أعظم ما يقاوم المرء به وصف الإمَّعة أن يكون ذا ثقة بنفسه وذا عزيمة لا يشوبها تردد ولا استحياء فمن كان ذا رأي فليكن ذا عزيمة فإن فساد الأمر أن يتردد المرء ، وليس بخاف موقف النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية حين رأى بعض الصحابة أن ظاهر الصلح ليس في مصلحة المسلمين ولكن ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه وبوعده لم تورده موارد التردد ولم تؤثر على عزمه كثرة الآراء والتهويل ، وقد ذكر شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما أراد المسير لقتال الخوارج عرض له منجم فقال له يا أمير المؤمنين لا تسافر فإن القمر في العقرب فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هزم أصحابك فقال له علي رضي الله عنه بل نسافر ثقة بالله وتوكلا على الله وتكذيبا لك فسافر فبورك له في ذلك السفر حتى قتل عامة الخوارج وكان ذلك من أعظم ما سر به رضي الله تعالى عنه. وأردف فضيلته يقول: لسائل أن يسأل فيقول هل أحوال المجتمعات المعاصرة تستدعي الحديث عن الإمَّعة وهل هو من الكثرة بحيث يجب التحذير منه ، فالجواب نعم لا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه موت العلماء واتخاذ الناس رؤوسا أقل منهم ثقة وعلما والذي فشا فيه الجهل وقل العلم ونطق الرويبضة وأصبح فيه الصحفي فقيها والإعلامي مشرعا وضعفت فيه المرجعية الدينية وهيمنتها على الفتوى الصحيحة السالمة من الشوائب والدخن ، بل أصبح فيه الحديث والنطق من ديدن الرويبضة وهو الرجل التافه يتكلم في أمور العامة التي لا يصلح لها إلا الكبار ، ولا جرم فإن أي مجتمع هذا واقعه لفي حاجة لمثل هذا الطرح. وأوضح الشريم أن التقليد الأعمى ووصف الإمَّعة وجهان لعملة واحدة وهما في الوقت نفسه لا يقتصران على السذج والرعاع من الناس فحسب ، بل إن وصف الإمَّعة يتعدى إلى ما هو أبعد من ذلكم ، فكما أنه يكون في الفرد فإنه كذلك في المجتمع بفكره وعاداته وتقاليده ، فقد يكون الفرد إمّعة والمجتمع إمّعة والناس إمعين ينطبق ذلك على العامي والمتعلم والمنتسب إلى العلم فإن مجرد انتساب المرء للعلم لا يعفيه من أنه قد يكون ضحية التقليد الأعمى ومعرة الوصف بالإمَّعة إذا ما كان كثير الالتفات واهن الثقة بالصواب ، وعلى هذا يؤمل ما يلاحظ بين الحين والآخر من اضطراب بعض المنتسبين للعلم في المنهج والفتوى وكثرة التنقل بين المذاهب والآراء بسبب المؤثر الخارجي وفق المزاحمة والضغوط والمحدثات التي تنهش من جسد التشريع ما يجعل المنتسب للعلم يسير حيث سار الناس فيطوع لهم الفقه ولا يطوعهم هم للفقه. وأكد فضيلته أن وصف الإمعة إذا دب في مجتمع ما ، قوض بناءه وأضعف شخصيته وأبقاه ذليلا منبوذا بين سائر المجتمعات ، يشرب بسببه روح التبعية ، لافتا النظر إلى أن المتّبع يعيش عالة على غيره في العادات والطبائع والفكر ، وإن وقوع المجتمع المسلم في أتون التقليد الأعمى للأجنبي لهو مكمن الهزيمة النفسية والألغام المخبوءة التي تقتل المروءة بتقليد أعمى وغرور بليد ، حتى يتلاشى عن المجتمع المسلم جملة من ركائز التميز التي خصه الله بها بشرعته وصبغته ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ). وبين فضيلته أن المجتمع المسلم إذا كان إمّعة يلهث وراء أسراب المغاير له ليؤلف نفسه على خُلق جديد ينتزعه من المدنية الأجنبية عنه وعن دينه وتقاليده ، فإن عليه أن يدرك جيداً أن الخُلُقُ الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة فتتغير رجولة بعض رجاله وأنوثة بعض نسائه ، كل ذلك بسبب الاندفاع المحموم وراء المجهول في ساحة التقليد الأعمى مهما كان لهذا التقليد من دواع زُينت ببريق وتزويق ولمعان يأخذ بلب النظار لأول وهلة ، فلا يلبث أن يتلاشى سريعا ، وإذا كان المجتمع في قرارة نفسه يوحي إلى أنه لا بد للأمة في نهضتها أن تتغير فإن رجوعنا إلى شرعة ربنا وشرعة المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم ما يصلح لنا من التغير وما نصلح به منه ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) وهل مثل هذا التغير إلا الأخلاق الإسلامية الحقة ، وهل بالأرض نهضة ثابتة تقوم على غير هذا التغير. وفي المدينةالمنورة أكد إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ عبدالمحسن القاسم في خطبة جمعة أمس أن الله عز وجل أمر خلقه بإفراده بالعبادة فلا يقبل عملاً بلا توحيد وثنى بعبادة بعد توحيده سبحانه وأكثر من ذكرها وأمر الرسل بها وهي من الميثاق الذي أخذ على الأمم السابقة وأمرت هذه الأمة بالمحافظة عليها ، ألا وهي الصلاة فقال سبحانه ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) وأمر بها النساء ( وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ). وقال فضيلته إن الصلاة هي من أسس الإيمان حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبدالقيس / هل تدرون ما الإيمان بالله ، شهادة أن لا اله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة / ، ومنزلتها في الدين بعد الشهادتين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بها في أوائل دعوته ، قال هرقل لأبي سفيان بما يأمركم به يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال / بالصلاة والزكاة والعفاف والصلة / ، مشيراً فضيلته إلى أن الصلاة هي أحب الأعمال إلى الله فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله قال / الصلاة على وقتها ثم بر الوالدين /. وذكر إمام وخطيب المسجد النبوي أن الصلاة خُصّت من بين سائر العبادات بفرضيتها في السماء فلم ينزل بها ملك إلى الأرض بل كلم الله سبحانه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بفرضيتها من غير واسطة حيث قال عليه الصلاة والسلام ( ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فأوحى الله إليّ ما أوحي ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة ) ، ولهذا فقد عظمت منزلتها حيث فرضت خمسين صلاة ثم خففت إلى خمس في العدد وبقيت خمسين في الثواب. وأشار فضيلته إلى أن الصحابة رضي الله عنهم أحبوها فكانوا يؤدونها في أشد المواطن ، فقد قال جابر رضي الله عنه / غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما فقاتلونا قتالا شديداً فقال المشركون إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من أولادهم / ، وبويع النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقد قال جرير رضي الله عنه / بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم /. وأكد الشيخ القاسم أن الصلاة هي خير عون على أمور الدنيا والدين تجمل المرء بمكارم الأخلاق وتنهى عن الفحشاء والمنكرات ماحية للخطايا مكفرة للسيئات ، شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بالنهر الجاري المزيل للأدران تحفظ العبد من الشرور ومهالك الردى ، كما قال عليه الصلاة والسلام / من صلى الصبح فهو في ذمة الله حتى يمسي / ، مشددا فضيلته على ان الصلاة ترفع عن العبدالمصائب والفتن والآفات والمعايب كما أنها تفتح أبواب الرزق وتيسره وتقوي البدن وتشرح الصدر. وقال فضيلته إن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصلاة بأنها نور فقال / والصلاة نور / ، وهي من موجبات دخول الجنة والرفعة فيها ، سأل ثوبان رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال اخبرني بعمل اعمله يدخلني الله به الجنة أو قال بأحب الأعمال إلى الله قال عليه الصلاة والسلام ( عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ) ، كما أن الصلاة من أسباب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، مؤكداً أن الصلاة كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم وجعلها آخر وصيته في حياته لأمته. وأشار الشيخ القاسم إلى أن فضائل الصلاة جمّة ومنافعها متعددة ، فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام ( لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ) أي زحفا على الأيادي والركب ، وهي فرض على كل مسلم أداؤها في كل مكان وعلى أي حال ، وجعلها الإسلام ميزاناً بين الإسلام والكفر حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم ( بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ) ، وواجب فعلها في وقتها كما أن الله سبحانه وتعالى أوجب أداءها جماعة في بيوت الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة إلا من عذر ) ، وقد هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت أناس لا يشهدون الصلاة في المساجد لولا ما فيها من النساء والذريات ) ، محذرا فضيلته من أن التفريط في صلاة الجماعة من أسباب استحواذ الشيطان على العبد ، قال عليه الصلاة والسلام ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ) ، مشدداً على أن الخشوع هو روح الصلاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفي ختام خطبته نصح فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي المسلمين بالإقبال على الصلاة بخشوع وسرور وبأدائها جماعة لتطهّر أرواحهم وتمحي زلاّت ألسنتهم وما اقترفته جوارحهم ولتُرفع بها درجاتهم.