ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي مساء أمس الأول محاضرة في نادي ضباط قوى الأمن بالرياض بعنوان (خصوصية المملكة وأهمية وعيها لدى رجال الأمن ) . وفي مستهل المحاضرة بيَّن الدكتور التركي أن الأمن ضرورة لازمة للناس حتى يقوموا بأعمالهم، ويصرِّفوا شؤونهم في مكاسبهم ومعايشهم، وفي تواصل بعضهم ببعض ، وكذلك هو ضرورة للمؤسسات حتى تؤدي وظيفتها في خدمة ما أنيط بها من أعمال ، وضرورة للدولة حتى تقوم بوظيفتها في رعاية المصالح العامة، وتسيير شؤون المجتمع . وشرح معاليه سمات مجتمع المملكة الذي يتمتع بخصائص ومميزات ، تعتبر قاعدة صلبة لأمنه، وتماسك نسيجه الاجتماعي، ووحدته الوطنية ، فالدين الذي يدين به الجميع واحد ، واللغة التي يتحدثونها واحدة ، بالإضافة إلى العادات والأعراف التي تقارب بين الناس، في أنماط العيش، وطرق التفكير، وأساليب التعامل ، وجاء الإسلام فصقل هذه الأرومة وكملها، بتوجيه الناس إلى الله رب العالمين، وتوحيده في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، مخلصين له الدين من علائق الشرك ورجس الوثنية. وهدى إلى بناء العلاقات الاجتماعية على أسسٍ أخلاقيةٍ، من العدل والإحسان، والتعاون على البر والتقوى، وبر الوالدين وصلة الأرحام، ومواساة الضعفاء من اليتامى والمساكين والأرامل، والعفة عن فواحش الأقوال والأفعال، وتنقية السرائر من سخائم الحقد والحسد والبغضاء والعجب والكبرياء، وتوطينها على الصدق والإخلاص، وحب الخير للناس، وحسن الظن بهم، والصفح عنهم، والنصح لهم. وقال الدكتور التركي :إنه من الأهمية بمكان أن تكون هذه الخصائص حاضرة في وعي رجل الأمن، تُوجه سلوكه الوظيفي، وتضبط تعامله مع الناس على اختلافهم، ليكون تعاملاً متناسقاً مع الخصائص الاجتماعية الآنفة الذكر، ومتناسباً مع الاعتبارات الوطنية التي يتميز بها هذا الوطن العزيز . وأضاف :إن هذا الوطن العزيز يضم الحرمين الشريفين؛ حيث جعل الله تعالى في أحدهما بيتَه المحرمَ مثابةً للناس وأمناً، ومباركاً وهدى للعالمين، وقبلةً للمسلمين قاطبة، وإليه يحجون ويعتمرون، وفيه تتضاعف الصلاة مائة ألف ضعف ، والحرمُ الثاني دار هجرة المسلمين الأولين وفيه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، امتدحه الله تعالى في كتابه وفيه قامت جماعة المسلمين الأولى ، وتَعلَّم الناس الهدي النبوي قولاً وفعلاً، وفيه تتضاعف الصلاة ألف ضعف . وقال الأمين العام للرابطة : لقد منَّ الله سبحانه وتعالى ، على هذه البلاد المباركة مِنَّة أخرى، بأن قيض لها داعيةً مصلحاً مُجدداً، ذلكم هو شيخُ الإسلام ومصباح الظلام، محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فركز دعوته على تخليص التوحيد من أدران الشرك والبدع، وجعله محوراً لها، اتباعاً لمنهاج الأنبياء واقتداء بالربانيين من العلماء؛ لأن التوحيد أساس الملة وأصل الدين، من أجله أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، وعليه مدار النجاة والسعادة في الدار الآخرة وهيأ الله له الإمامَ محمد بن سعود - رحمه الله - فآواه ونصره”. وبين أنه في ظل الرعاية والمؤازرة من قادة المملكة ، اشتدت هذه الدعوة الإصلاحية السلفية، وتنامت بين الناس، حتى أضاء نورُها الآفاقَ وعم الأرجاءَ لقد تم بفضل الله ونعمته، توحيد الجزيرة العربية، ولمُّ شملها تحت راية التوحيد، على يد الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، طيب الله ثراه بمستهِلٍّ من شآبيب رحمته وأثمرت هذه الدعوة التجديدية المباركة، نهضةً علميةً على منهاج السلف الصالح، فمَدَّت الأمةَ بالعلماء الربانيين الأجلاء، الذين يدعون إلى الله على بصيرة، ويُعلمون الناس دينهم، ويصلحون ما أفسد الجهل من عقيدتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم فنشأ في المملكة جيل يحب العلم ويقبل عليه، ويبغض الجهل وينفر منه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجتمع على ولاة أمره وانتشر الأمن في المدن والقرى والبوادي، وانقطع دابر البغي والعدوان، وحصحص الحق وزهق الباطل وتواصل توحيد الجزيرة واستتباب الاستقرار فيها، بنهضة شملت شتى الميادين: التعليمية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والصحية والإدارية، وغيرها، بقيادة المؤسس الملك عبد العزيز، ثم أبنائه البررة، إلى هذا العهد الزاهر، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبد العزيز، وسمو النائب الثاني الأمير نايف بن عبد العزيز، حيث تواصلت وتكاملت هذه النهضة، ضمن مراعاة الاعتبارات المشار إليها آنفاً، والتي تعتبر من السمات الوطنية الثابتة. وأبرز الدكتور التركي تجلي هذه الاعتبارات بصورة واضحة في النظام الأساسي للحكم الذي صدر عام 1412ه، معبراً عن الصبغة الإسلامية للمملكة، باتخاذ كتاب الله وسنة رسوله دستوراً، كما جاء في المادة الأولى منه وجاء في المادة السابعة: يَستمِد الحكم في المملكة العربية السعودية، سلطتَه من كتاب الله وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة” وتطبيق الشريعة الإسلامية بدلاً من القوانين الوضعية، في المجال التشريعي والقضائي، والانضباط بها في عامة شؤون الحياة، والاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفق هدي سلف الأمة الصالح و قيام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بوظيفة حث الناس على إقامة شعائر الدين ، وفي مقدمتها الصلاة، ومراقبة الآداب والأخلاق العامة، في الأقوال والأفعال والأشكال، حمايةً للمجتمع من الانزلاق إلى الفساد الخلقي، ومن انتشار المظاهر والعادات التي لا يقرها شرعنا الحنيف. وأبرز الدكتور التركي عناية الدولة بالمساجد ورسالتها، من إقامة الصلاة ونشر الوعي الديني بين الناس ، والاهتمام بالقرآن وتعليمه الناشئة ، والعناية بالجانب الدعوي في المجتمع بالحكمة والموعظة الحسنة، بقصد تعميق التدين لدى الناس، وتصحيح الأخطاء التي يقعون فيها في الاعتقادات والأقوال والأفعال والاعتناء بالعلم والعلماء. ويتجلى ذلك في العديد من الجوانب، منها إنشاء جامعات إسلامية، لتأهيل العلماء والقضاة والدعاة، ومدرسي العلوم الشرعية، وتكوين هيئة لكبار العلماء، والاعتناء بالإفتاء والمفتين، وطبع أمهات الكتب الشرعية، ونشرها وتوزيعها حسبة لوجه الله وتغذية مناهج التعليم بالمواد الشرعية، كالتوحيد والفقه والحديث والتفسير، بالمقدار الذي يحتاج إليه الناشئ في معرفة دينه، ويزوده بقاعدة أساسية في الثقافة الإسلامية وصيانة المرأة من الابتذال بالسفور ، ومن كل تعامل يخشى منه انفتاح الباب إلى المفاسد الخادشة للكرامة، والهاتكة لحرمة الأعراض، والموقعة للمجتمع في حمأة الرذائل والفواحش. وتناول معاليه التعاون الإسلامي الذي تقوم به المملكة، وتعتبر رائدة فيه لغيرها من الدول الإسلامية ومن ذلك الاعتناءُ بالقضايا الإسلامية، وبذلُ المساعي الودية والدبلوماسية للإصلاح بين أطراف مسلمة متنازعة، والحرصُ على توحيد صفوف الأمة، والدعوةُ إلى التعاون في الإطار العربي والإسلامي، وتنسيق المواقف في صيغ جماعية، على أساس وحدة أهداف الأمة وترابط قضاياها. كما تطرق إلى دور المملكة في مجال التعاون الدولي والإنساني، انطلاقاً من رؤية إسلامية في التعامل مع الآخرين، استلهمتها المملكة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن المواقف التي سجلتها الأمة خلال تاريخها الطويل. وأكد معاليه أن مبادرة خادم الحرمين الشريفين للحوار بين أتباع الأديان والحضارات تعتبر من أبرز الدلائل على ما تُكنه المملكة من حب الخير للبشرية، وما يقتضيه هذا الحب من حرص على الإسهام في تحقيق التعايش السلمي بين أمم العالم ودوله وشعوبه، والتصدي للدعوات المؤججة للصراع بين الحضارات. ثم تحدث الدكتور التركي عن حاجة أبناء المملكة إلى الوعي بخصائصها ومميزاتها مبيناً أن الوعي بالخصائص والمقومات الوطنية للمملكة، وإدراك أهمية التعامل على أساس مراعاتها واحترامها، أمر يحتاج إليه كل مواطن، لكن أهمية هذا الوعي تتفاوت من شخص إلى آخر، بحسب مركزه الاجتماعي، وموقعه الوظيفي، وما يتصل بذلك من مسؤولية في الدولة والمجتمع. وخلص أمين عام الرابطة إلى أن المهمة الأمنية تقتضي بطبيعتها، أن تتجلى فيمن يتولاها خصائصُ الشخصية الوطنية ومقوماتها، بصورة لائقة في تكاملها وتوازنها ذلك أنه مؤتمن على أنظمة وتعليمات، تقتضي أسلوباً دقيقاً في التعامل مع الناس، لكي يُنفذها على الوجه الذي يحقق المصلحة المتوخاة منها، ويسهم بحسن تعامله قولاً وفعلاً، في ترسيخ ثقافة المحافظة على النظام والأمن داخل المجتمع ولا سيما أنه يواجه في الناس ألواناً من الطباع والأمزجة والتصرفات، قد تؤثر على المصلحة العامة . وأوضح ان أهم سلوك ينبغي أن يسلكه رجل الأمن، هو أن يُشعر من يتعامل معه بأن الأنظمة وضعت لخدمتهم وتنظيم مصالحهم على وجه يقيها من التعارض والتضارب، والتأثر بالطباع والأمزجة مشيرا الى انه من الأهمية بمكان أن يحتاط كل مواطن، وبخاصة رجل الأمن، فيما قد يؤثر سلباً على خصوصية المملكة التي تُبوئُها موقع القدوة والريادة لغيرها من دول العالم الإسلامي وشعوبه، وباعتبارها مثابةً للمسلمين من شتى أقطار العالم، يفدون إليها باستمرار بمئات الآلاف، بل بالملايين، لأداء مناسك الحج والعمرة، وزيارة المسجد النبوي الشريف. ولفت معاليه إلى أهمية إدراك الموازنات الصعبة التي تراعيها المملكة في المحافظة على خصائصها ، وقال : مما لا يخفى على من شهد مسيرة المملكة بين الأمس واليوم، أنها قطعت أشواطاً كبيرة في الازدهار في مختلف ميادين الحياة، في مدة زمنية قياسية وهي تعطي بذلك للعالم نموذجاً حياً ودليلاً واقعياً، على أن التمسك بالدين لا يتعارض مع التقدم في الحياة المدنية وأن هذا التعارض إن صح افتراضه في بعض الأديان، لتدخل العقول البشرية فيها بالوضع والاختلاق ، أو بالتحريف والتزييف لأصلها المنزل من عند الله، فلا يصح أن يفترض في الإسلام بحال من الأحوال؛ لصيانته من ذلك كله، واشتماله على الاهتمام بمصالح الدنيا والدين، وابتنائه على أسس فطرية ومبادئ علمية على خلاف ما تروج له الأطروحات المادية والعلمانية، من عدم قابلية الجمع بين التمسك بالدين، والتقدم في الحياة المدنية، بناء على الاعتقاد بأن الدين مبني على أسس غير عقلية، وأنه يعادي العلم ويتنافر معه . وأشار إلى أن المملكة أعطت من تجربتها دلالة على أن المسلمين، يمكنهم أن يتقدموا تقدماً مدنياً كاملاً في الإطار الإسلامي الذي يحفظ عليهم دينهم وأخلاقهم وتطبيق شريعتهم في الحياة. وشرح معاليه تصدي المملكة للفكر المنحرف الذي انطلى على أذهان بعض الشباب المسلمين، فدفعهم إلى تصرفات لم تقلقل الأمن والاستقرار فحسب، بل شوهت صورة الإسلام في أذهان الذين لا يعرفون حقائق الأمور، ودفعت غير المسلمين إلى التخوف من تنامي الإسلام في بلاد الغرب، على ظن منهم أنه دين العنف والإرهاب والمعاداة للحضارة الغربية بمحاسنها ومساوئها. ولخص الدكتور التركي قبل ختام محاضرته الأسس التي يرتكز عليها الأمن في المملكة بالتمسك بالعقيدة الصحيحة وضبط التعامل وفق الشرع الحنيف والتمسك بالبيعة الصادقة لولاة الأمر والتمسك الثابت بالوحدة الوطنية ومقتضياتها وتقديم المصالح العليا للدولة والمجتمع ، وترجيحها على المصالح الفردية، عندما يظهر التعارض بينهما والنظرة الإسلامية الصحيحة للمسلمين. وقال :إن الانفتاح على العالم والاستفادة من تطوراته في شتى المجالات، لا يقتضي بحال من الأحوال، تجاوز هذه الأسس، أو اعتبارها عقبة في طريق النمو ومواكبة العصر وإذ ذاك، فمن الأهمية بمكان أن يعي هذه الأسس ويتعامل على وفقها، أبناء المجتمع على اختلافهم، وأن يعتبروها قاسماً مشتركاً بينهم جميعاً، يعبر عن الحد الأدنى للمواطنة، لا يمكن المساس به.