نواصل الحديث في هذه الحلقة عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم- ومعه الصحابة رضوان الله عليهم، ونحس أننا مع أشرف موكب عرفته الأرض في التاريخ كله، ونشعر بالأدب العظيم الذي أدب الله تعالى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأبرار الأطهار، ثم كيف أدب - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الصحابة، من التعاون على البر والتقوى، فقد واصلوا المسيرة إلى البيت العتيق، وعندما اقتربوا من وادي عسفان تمثل لهم موقف أبينا إبراهيم -عليه السلام - وهو أبو الأنبياء الذين جاءوا بعده أجمعين، وقد سماه الله تعالى أبا لنا فقال عز وجل: (ملة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ) وقد رأينا كيف رفع الله عنه ذلك البلاء المبين، وافتدى ابنه بذبح عظيم، واستجاب دعاءه فجعل له لسان صدق في الآخرين، يذكر الناس صنيعه هذا جيلا بعد جيل، في إكبار ما يماثله إكبار، سلام على إبراهيم، إنا كذلك نجزي المحسنين. وهنا يقف المسلم من قصة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام - موقف المسبح بحمد ربه تعجبا من سعة رحمته، وبديع حكمته ولطفه، فهو -سبحانه - لم يطلب من أحد ذبح ولده، إنما طلب ما هو أيسر من ذلك بكثير، وهو مع ذلك مفرط في جنب الله، والله مع ذلك يغفر له إن استغفره، ولا يعامل أحدا منا بعمله بل برحمته، فهو يرزقه وإن عصى، ويقبل عليه وإن أدبر عنه، ويستميله ويناديه وإن تمادى في الجموح، «قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «وهُوَ الَذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ويَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ » «ويَسْتَجِيبُ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ويَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ والْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ » «ولَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ».. لقد واصل الركب الميمون السير إلى مكةالمكرمة عشرة أيام، والقلوب معلقة إلى البيت العتيق، وبالله - عز وجل - صاحب الجناب الأعلى، وجوانحهم ممتلئة بهذه المشاعر الجياشة، حتى أصبحوا على مشارف مكة، ثم هبطوا إلى البيت العتيق، حتى إذا رأوه أمسكوا عن التلبية حين رأوا سيدنا محمداً – صلى الله عليه وسلم – يمسك عنها، حين وصلوا أدنى الحرم، ونزل - صلى الله عليه وسلم - هو ومن معه بذي طوى، وباتوا فيه ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة. وصلى بهم – عليه الصلاة والسلام – فجر ذلك اليوم، وازدادت أشواقهم لدخول البيت الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وشرفه على جميع بقاع الأرض، ما عدا ذلك الجزء الذي يضم جسد سيد الأولين والآخرين، فإنه أعظم بقعة على وجه المعمورة بإجماع كافة المسلمين، وما زالت الأشواق تعصف بهم لدخول البيت العتيق والطواف به.. وبعد أن صلوا الفجر اغتسل النبي – صلى الله عليه وسلم – واغتسلوا اقتداء به كما أمر بذلك عليه الصلاة والسلام، ثم ساروا يتقدمهم المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه- حتى دخلوا مكةالمكرمة من كدا الثنية العليا التي بالبطحاء المشرفة على المقبرة، ليتمكن الناس من رؤيته -صلى الله عليه وسلم-، وسار - صلى الله عليه وسلم - يتبعه الركب الميمون، حتى أتى المسجد الحرام ضحى، فأناخ راحلته، ثم دخل من باب بني شيبة، ولما رأى البيت الحرام - صلى الله عليه وسلم - كبر وقال «اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما، ومهابة وأمنا، وزد من حجه، أو اعتمره، تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا». وبدأ سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الطواف وقد جعل البيت عن يساره، بدأ بالحجر الأسود فكبر الله ثم قبله ولم يزاحم عليه - فليت إخواننا الحجاج يقتدون بهديه - صلى الله عليه وسلم- فلا يزاحمون عليه ولا يؤذي بعضهم بعضا، كما نرى، وربما وقع الإثم العظيم محل الأجر، إذا تعمد الحاج ذلك أو أغلظ أو قسا على الضعفاء، فإنه لا يتقرب إلى الله بإيذاء خلقه، فكيف إذا كانوا ضيوفه، ومحل نظره تعالى، وموضع إكرامه (ولقد استقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي، فقال : يا عمر ها هنا تسكب العبرات) حتى لا يتسبب في أذى يقلل مثوبته، وإن الله تعالى يحب الرفق في كل شيء ويحب من عباده الرحماء. والراحمون يرحمهم الله. ليت الحجاج حين يأتون للحج، يأتون وهم مزودون بمعرفة آداب الحج النبوية السامية، بنفس الدرجة التي يتعرفون بها على المناسك، فإن المناسك إنما هي بمثابة الجسد، والآداب المحمدية روحها، يقول الله تبارك وتعالى: «قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ » لأن الصلاة بلا خشوع، إنما هى جسد بلا روح، وكذلك الحج، إن ما يقوم به الحجاج في موسم الحج يشاهده العالم كله على شاشات التلفزيون، وإننا مطالبون جميعا أن نظهر للمسلمين وأمام العالم كله على ما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- لأننا لن ننال احترام غير المسلمين إلا بالتأدب بآداب الإسلام، إن رؤية الحجاج وهم يتزاحمون على تقبيل الحجر الأسود بهذه الصورة التي سمعت شيخنا العلامة المرحوم الشيخ حسن المشاط يسميها « وحشية» وهو عالم يعرف ما يقول ويعني ما يقول، وأشهد الله أني سمعتها منه. إن رؤية الحجاج بهذه الصورة غير اللائقة لا تخدم الإسلام، بل تسيء إليه وإلى المسلمين، وتقف عقبة أمامه عند هؤلاء المسلمين، وعند الغربيين الذين يقدسون النظام، ويجعلونه من أكبر -إن لم يكن أكبر - مقاييس التقدم والتحضر والإنسانية.. فليتق الله هؤلاء المزاحمون على الحجر في الضعفاء، وليتقوه في إظهاره بهذه الصورة التي يعكسونها عن الإسلام. وفور دخوله صلى الله عليه وسلم توجه إلى البيت العتيق، ليؤدي تحية المسجد – وتحية البيت الطواف – نعم تحية البيت «الطواف». ومعنى ذلك أنه مختلف عن جميع المساجد، التي هي في نفس الوقت بيوت الله، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، هذه كلها تحيتها ركعتان، بخلاف البيت العتيق، لأن الله تعالى قد جعله مثابة للناس وأمنا، ولم يجعله مكانا للأذى والفوضى، فما زال هذا البيت يطوف به الناس وتطوف به الملائكة تكريما وتعظيما وتشريفا، وما زال هذا البيت محل التعظيم والتكريم منذ عهد أبينا آدم عليه السلام، حتى اليوم، بل وحتى تبدل الأرض غير الأرض والسموات.. ولقد بلغ من عظمة هذا البيت المشرف المقدس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عاد إلى مكة استقبل الكعبة وقال: «إنك لخير أرض الله عز وجل، وأحب بلاد الله تعالى إليَّ، ولولا أني أخرجت منك لما خرجت»، ولاشك أن مكةالمكرمة إنما نالت هذه المكانة لوجود البيت العتيق.. ولهذا أقسم الله تعالى بها في القرآن من بين ما أقسم به، فقال «لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ»، يعني مكةالمكرمة. وهكذا فعل المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه-، كبر أولا، ثم قبل الحجر، تعظيما لما عظم الله، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب. ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه.. وقد اضطبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضطبع أصحابه في كل الطواف - والاضطباع معناه أن يكشف الطائف كتفه الأيمن أثناء الطواف بالبيت فقط، فإذا انتهى من الطواف أعاد الرداء فغطى به كتفيه كما كان قبل الطواف، وخطأ كبير أن يضطبع الحاج فيكشف كتفه الأيمن من بداية الإحرام إلى نهايته كما يفعله الكثيرون، وقد يدوم ذلك أياما كثيرة، وفي ذلك أذى كبير لمن فعله، لما يصيبه من التهاب الجلد من أشعة الشمس المحرقة. ثم رمل - صلى الله عليه وسلم - في الأشواط الثلاثة الأولى - ومعنى الرمل أن يركض ركضا خفيفا أثناء الطواف – وهذا غير ممكن في الزحام سواء في الحج وغير الحج، ولا يترتب على تركه شيء ثم مشى متمهلا فيما تبقى، والسبب في الرمل أن المشركين لما جاء المسلمون لأداء العمرة التي منعتهم قريش منها عام الحديبية قالوا ( إن المسلمين أنهكتهم حمى يثرب – يعنون المدينة – فاضطبع – صلى الله عليه وسلم – وأمر الناس أن يضطبعوا لإظهار القوة أمامهم، وظل الرمل على ما هو عليه سنة في كل طواف يعقبه سعي. وأعمال الحج كلها مبنية على التسليم، مبنية على السمع والطاعة لا محل للعقل فيها وإنما الأساس فيها هو الاقتداء والتسليم. إن مناسك الحج هي كالمشكاة التي ضرب الله لنا المثل بها في سورة النور «فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ» تستمد منه أرواحنا الهداية والقوة والصبر والمواظبة والاستمرار على حب ما يحب الله وما يرضى عنه، مؤمنين في ذلك بسيد الهداة وإمام المتقين.. فعنه -صلى الله عليه وسلم- نأخذ المناسك، ونؤديها كما أداها، علمنا الحكمة منها أم لم نعلم، مستسلمين، كما استسلمت هاجر وكما استسلم إسماعيل للذبح واستسلم أبوه أبو الأنبياء للبلاء الكبير.. صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين..