(الحلقة الثانية) تابعنا في الحلقة الأولى مواقف السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود منذ وصوله الحجاز ودخوله مكةالمكرمة دخول العبد الطائع الخاشع لا الملك المتجبر.. وتوقفنا معاً عند كل البلاغات السلطانية وكذلك الرسائل المتبادلة بينه وبين قناصل الدول الصديقة المعتمدين وتوقفنا عند أول بلاغ سلطاني تنشره جريدة أم القرى 12 جمادى الآخرة 1343ه حتى رأى أهل مكة في سلطان نجد (رجلاً نبيلاً متواضعاً حسن المعشر واسع الصدر) وفي هذه الحلقة نتابع مواقف السلطان عبدالعزيز في مكة. السلطان عبدالعزيز وتشكيل الإدارة المؤقتة في مكة بعد ذلك البلاغ الذي نشرته (أم القرى) والمنشور في الحلقة السابقة اتضحت سياسة السلطان عبدالعزيز العامة ولاستقرار الأوضاع المضطربة والناس الخائفة الفزعة كان لابد من تشكيل إدارة مؤقتة في مكةالمكرمة لتيسير أمور الناس التي تعطلت بأسباب الأوضاع القائمة.. في الوقت الذي يمثل فيه تشكيل الحكومة معنى الاستقرار وعودة الطمأنينة لممارسة الحياة العادية، فجاءت تنظيمات السلطان عبدالعزيز لتشكيل الحكومة المؤقتة لتحقق هذه الأهداف وقد جاء تنظيم الحكومة كما أوردها حافظ وهبه في كتابه (خمسون عاماً في جزيرة العرب ص166 ط1380ه )كما يلي: 1 السلطان عبدالعزيز: إدارة شؤون البلاد والقيادة العامة للجيش. 2 حافظ وهبه: إدارة الشؤون المدنية واشترك معه لفترة وجيزة الدكتور عبدالله الدملوجي. 3 خالد بن لؤي: إدارة شؤون جميع الإخوان والقوات السعودية. 4 الشريف هزاع العبدلي: شؤون بادية الحجاز (مكةالمكرمة وضواحيها). من هنا يتضح أنه لم يكن للسلطان عبدالعزيز سلطان نجد وملحقاتها أي تطلع الى ضم مملكة الحجاز مراعياً في ذلك ظروفه الدولية وموقعة بالنسبة للعالم الإسلامي، وأكثر ما تتضح هذه الصورة في الخطابات والبرقيات المتبادلة بينه وبين أعيان الحجاز والقيادات الاسلامية إضافة إلى اجاباته على البرقيات الرسمية والشعبية التي تسلمها قائد جيش الإخوان خالد بن لؤي. فالحجاز له أوضاع وظروف تختلف عن الأقاليم الأخرى فلقد وجد السلطان في الحجاز نظم الإدارة ومؤسسات الحكم المدني والإدارات التنفيذية مثل الوزارات ومجلس الشيوخ الأعلى ومجلس الشورى إضافة إلى إدارات الصحة والبلدية والبرق والبريد والمالية والمصارف والرسوم والشرطة. لهذا لم يحدث السلطان عبدالعزيز أي تغييرات في تنظيم الدوائر الحكومية ما عدا الشؤون العسكرية والعلاقات الخارجية التي ارتبطت به شخصياً وعين الشيخ سعيد أبو الخير مديراً للأوقاف والشيخ محمد المرزوقي لإدارة القضاء وذلك لما أصاب هاتين الإدارتين من ترهل وفساد في تلك الفترة . وأبقى على بقية الإدارات على ما هي عليه. لم يكتف السلطان عبدالعزيز بهذا الأمر بل دعا إلى اجتماع عام يحضره العلماء والأعيان والتجار في مقر البلدية في 21/5/1343ه أي بعد اسبوعين من وصوله إلى مكة حضره عظمة السلطان وافتتحه بكلمة أوضح فيها تطلعه إلى إدارة مدنية من منظور إسلامي ومما جاء في كلمة السلطان عبدالعزيز وهي الثالثة منذ دخوله مكة قال: (أريد رجالاً يعملون بصدق وعلم واخلاص حتى إذا أشكل علي أمر من الأمور رجعت إليهم في حله وعملت بمشورتهم فتكون ذمتي سالمة، وتكون المسؤولية عليهم واريد الصدق في القول) إلى أن قال (ثلاثة أكرههم ولا أقبلهم، رجل كذاب يكذب علي متعمداً ورجل ذو هوى ورجل متملق هؤلاء أبغض الناس عندي). كان ذلك الاجتماع من أهم الاجتماعات التي أرست نظام الشورى بل كان ذلك الاجتماع هو الاجتماع التأسيسي لمجلس الشورى الأهلي لأول مرة بمشاركة الأهالي لاختيار ممثلين عنهم لإدارة مصالحهم. لمزيد من المعلومات (راجع كتابنا ملامح من تاريخ مكة 169 ومابعدها جريدة القبلة العدد 17 سنة 1334ه الثورة العربية الكبرى أمين سعيد 3/132 مملكة الحجاز محمد طالب دهيم ص80 تطوير الحكم والإدارة محمد توفيق صادق ص75 جريدة أم القرى الإعداد الأول والثاني والثالث 15-22-29/5/1343ه تاريخ نجد الحديث أمين الريحاني 375). السلطان عبدالعزيز.. والحد من غلظة الإخوان.. وتكليف البلدية بالأمر بالمعروف سعى الملك السلطان عبدالعزيز إلى تلمس احتياجات الناس في مكةالمكرمة وثقل الأعباء التي ارهقتهم وفي مقدمتها تلك الضرائب التي كانت مفروضة عليهم.. لذا سعى إلى تخفيض تلك الضرائب وتثبيت تسعيرة المواد الغذائية وأوجب الالتزام بتعريفة النقل.. في الوقت الذي سعى إلى توفير المواد الغذائية عن مينائي الليث والقنفذة بعد أن توقفت إمدادات ميناء جدة لسيطرة حكومة الحجاز فيه عليه وبقائها متمركزة في جدة. ويرغم الأجواء والتعاملات الطبية التي تعامل فيها السلطان عبدالعزيز مع أهالي مكةالمكرمة الذين وصفوه بالسلطان العادل.. كان الأهالي يعانون من غلظة تعامل الإخوان وتدخلهم وقيامهم بالدعوة إلى الصلاة جماعة في المسجد.. وهذا التعامل شق على المكيين الذين لم يألفوا هذا التعامل فجاءت توجيهات السلطان عبدالعزيز بتوقف الإخوان وتكليف إدارة البلدية بإخراج منادٍ ينادي بوجوب الصلاة جماعة في المسجد. وبهذا الوضع كانت النواة الأولى لتشكيل قسم هيئة الأمر بالمعروف ضمن أقسام البلدية، في الوقت الذي كانت فيه نظرة السلطان إلى ضرورة التعامل مع الناس على قدر مستواهم الحضاري ولهذا كلف البلدية بذلك باعتبار البلدية التي اصبح رئيسها احمد السبحي هي أعرف الإدارات بشؤون الناس. لمزيد من المعلومات (يراجع ملامح من تاريخ مكة هاني فيروزي 171 وما بعدها تاريخ نجد أمين الريحاني 375 وما بعدها تطور نظام الخيم محمد توفيق صادق 57 خمسون عاماً في جزيرة العرب حافظ وهبه 66). السلطان عبدالعزيز وإدارة شؤون الحجاز وتأسيس مجلس الشورى الأهلي كان للحجاز أوضاع وظروف تختلف عن بقية الأقاليم الأخرى التي اصبحت تحت الإدارة السعودية فلقد عرف الحجاز نظم الإدارة والمؤسسات التنفيذية في إدارة الحكم المدني مثل الوكالات (الوزارات) ومجلس الشيوخ كما ذكر ذلك سعيد أمين 3/132 و(الشورى) كما ذكره محمد طالب وهيم في مملكة الحجاز ص80 كما استحدث إدارات الصحة والبلدية والمواصلات والبرق والبريد والمالية والمعارف والشرطة والرسوم.. وعندما دخل السلطان عبدالعزيز إلى مكةالمكرمة لم يحدث أي تغييرات في تنظيمات الدوائر الحكومية الموجودة قبل دخوله.. ما عدا الشؤون العسكرية والعلاقات الخارجية.. وعين بعض المديرين مثل إدارة الأوقاف التي عين عليها الشيخ سعيد أبو الخير وإدارة القضاء عين لها الشيخ محمد المرزوقي ودعي إلى اجتماع بمقر دائرة البلدية في 21/5/1343ه ألقى فيه كلمة بليغة شرح فيها تطلعه إلى ايجاد أداة مدنية من منظور اسلامي وجاء نتيجة الاجتماع تأسيس (مجلس شورى أهلي) لأول مرة. يتم اختيار اعضائه بالانتخاب السري فاجتمع الناس وانتخبوا مجلساً من أربعة عشر عضواً، برئاسة الشيخ عبدالقادر الشيبي. لقد ترك هذا القرار أثره البالغ في نفوس المكيين الذين سعدوا بتحمل المسؤولية التي ألقيت على عاتقهم. لمزيد من المعلومات (جريدة القبلة العدد 17 في 1334، والثورة العربية الكبرى أمين سعيد 3/132 وما بعدها، تاريخ نجد أمين الريحاني 5/375 ملامح من تاريخ مكة هاني فيروزي 170 وما بعدها). السلطان يهتم بتوفير المواد الغذائية.. من القنفذة والليث برغم كل الاشكاليات التي كانت تشغل فكر السلطان عبدالعزيز السعود كان جل اهتمامه بدرء الفساد وايقاف الرشوة وتيسير مصالح الناس واشراك الأهالي في اختيار ممثليهم ممن يعرفونهم ويثقون فيهم وبذل كل الجهود لتوفير المواد الغذائية لسكان أم القرى التي انقطعت عنها الامدادات الواردة من جدة والتي تمركزت فيها حكومة الملك علي كما ذكر ذلك عبدالعزيز الاحيدب في كتاب من حياة الملك عبدالعزيز 166 الأمر الذي جعل السلطان عبدالعزيز يستفيد من ميناءي القنفذة والليث اللذين اصبحا تحت الإدارة السعودية، وأوجد تسعيرة لوسائل النقل وتسعيرة للمواد الغذائية وتخفيض الضرائب التي ارهقت كاهل السكان كما ذكرها خير الدين الزركلي في كتابه شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز 1/343 ط5 1992م بيروت. الطيران الحجازي يفسد المساعي ويستفز السلطان كان السلطان عبدالعزيز منشغلاً بهموم الناس وسكان البلد الحرام في الوقت الذي كان فيه يستقبل الوسطاء الباذلين مساعيهم الحثيثة لتسوية القضية الحجازية بين سلطان نجد وبين ملك الحجاز وكادت المساعي تؤتي ثمارها لولا قيام طائرات ملك الحجاز الإنجليزية بقيادة الطيار السوري اللاذقي (عبدالفتاح جودة) ومساعده الطيار الروسي (تشاريكوف) بإلقاء منشورات على معسكر العطاف في منطقة الشهداء في غرة شهر جمادى الآخرة 1343ه بتعليمات من قائد الجيش الحجازي (تحسين باشا الفقير) الأمر الذي أغضب السلطان وأفسد كل المساعي التي بذلت وقرر السلطان الزحف على جدة. لمزيد من المعلومات (شبه الجزيرة لخير الدين الزركلي 1/344 تاريخ مكة أحمد السباعي 2/655 الثورة العربية أمين سعيد 3/207 تاريخ المملكة صلاح الدين المختار 2/352). السلطان عبدالعزيز .. والزحف إلى جدة انتقل معسكر السلطان عبدالعزيز من موقعه في الأبطح وهو المعسكر الأول عند دخول الإخوان إلى الموقع الجديد للمعسكر في منطقة الشهداء في الطريق المؤدي إلى جدة وأصبح قوام جيش السلطان مكون من أربعة آلاف رجل إضافة إلى العتاد الذي غنمه جيش السلطان من الطائف والهدا وقلعة أجياد بمكة من مدافع ورشاشات. وبدأ تحرك جيش السلطان إلى جدة ما بين 5-7 جمادى الآخرة الموافق 3-9 يناير 1925م وجعل تاريخ الزحف ما بين يومي 5-7 ناتج عن اختلاف مؤرخي الفترة فالشيخ احمد السباعي يذكر أنه يوم (5) جمادى الآخرة في كتابه تاريخ مكة 2/655، أما خير الدين الزركلي في كتابه شبه الجزيرة ص1/344 فيذكر أنه يوم السبت 7 جمادى الآخرة الموافق 3 يناير 1925م أما أمين سعيد مؤرخ الثورة العربية فيذكر أنه في 9 يناير وأمين الريحاني يذكر كان قبل يوم الأحد 9 جمادى الآخرة ومن خلال ما أشرنا إليه واستقرأناه يمكن ترتيب الأحداث على النحو التالي: أولاً: طلائع الجيش: بعث السلطان بطلائع الجيش يوم الخميس 5 جمادى الآخرة 1343ه لتأمين الطريق والاستعداد لاستقبال الجيش وهي التي عسكرت في قرية (حداء) ثم انتقلت إلى بحرة. ثانياً: فرقة المدافع: خرجت فرقة المدافع من قشلة (قشلاق) جرول يوم الجمعة الموافق 6 جمادى الآخرة 1343ه. ثالثا: خروج السلطان: خرج السلطان عبدالعزيز مع بقية الجيش يوم السبت 7 جمادى الآخرة 1343ه الموافق 3 يناير 1925م متجهاً إلى المخيم الذي أعد لعظمته في قرية (بحرة) في منطقة الوزيرية. رابعاً: انتقال معسكر السلطان: انتقل السلطان إلى معسكره في الرغامة يوم الجمعة 13 جمادى الآخرة الموافق 9 يناير ليكون على مقربة من جدة ولتصل إليه اخبار جدة باستمرار. الأسبوع القادم حصار جدة واستسلامها وتأمين طريق الحجاج