في محاكاة جلية بين صحة الفرد الجسدية والصحة النفسية ؛ نجد أن الأولى هي مؤشر ظاهر سهل التوصل إليه والاستدلال عليه ؛ فالأعراض وإن لم تكن ظاهرة يمكن معرفتها والوقوف على تأثير تبعاتها على حياة الفرد ؛ بينما يعتقد البعض بأن الثانية مجرد تكوين فرضي ليس له وجود في كثير من الأحيان. قد يكون الكثير مما نواجهه اليوم من مشكلات ومصاعب لدى أفراد المجتمع ناتج عن إهمال الصحة النفسية لديهم منذ البداية ؛ وذلك لأنه مع الأسف الشديد مازالت هنالك شخصيات لا تؤمن بمدى تأثير الظروف الخارجية والداخلية والأسرية والشخصية والاجتماعية على حياة الفرد وعلى تكوينه النفسي وخبراته الحالية والمستقبلية. يعد التوافق النفسي المظهر الأساسي الذي يعكس مدى نسبة توفر الصحة النفسية لدى الفرد , ويعرف التوافق في أبسط صوره بأنه عملية ديناميكية مستمرة تتناول الفرد والبيئة (المجتمع) بالتغيير والتعديل حتى يتمكن الفرد من إشباع حاجاته الأولية والثانوية ومن ثم يشبع متطلبات المجتمع الخارجي , ويمكن أن نقيس على ذلك جميع المواقف التي يمر بها الفرد في حياته بشكل عام. ومع الثورة المعرفية التي تشهدها الأمم والمجتمعات ؛ استغرب كثيراً ممن يتجاهل مدى أهمية السلامة النفسية للفرد ؛ ويقلل من دورها في التأثير على حاضره ومستقبله ؛ فالخبرة اليومية التي يتعرض لها الفرد في هذه الحياة كفيلة بأن تشكل حياته وتسير بها نحو الاتجاه السلبي أو الإيجابي. تحضرني قصة لأحد مرتادي العيادة النفسية وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره ؛ وقد تخرج من قسم الحاسب الآلي بامتياز وبمعدل يؤهله لشغل وظائف لا يشغلها من هم أقل منه ؛ إلا أنه جاء يشكو من نوبات خوف شديدة تلازمها زيادة في ضربات القلب وصعوبة في التنفس ؛ وهي نوبات متكررة لا يمكن التنبؤ بحدوثها ؛ فتارة تأتيه وهو بين أسرته وتارة تأتيه وهو يقود سيارته مما شكل له هاجساً من أن توافيه منيته في إحدى تلك النوبات ؛ وقرر بعد ذلك عدم الخروج والعزلة ورفض جميع الفرص الوظيفية التي عُرضت عليه . وعندما تحدث معه الطبيب عن ماضيه اكتشفنا أن والده كان يعاقبه بالحبس في غرفة مظلمة بالإضافة للضرب الشديد المبرح والذي مازال جسده يحمل آثاره لليوم . وعندما تم استدعاء الوالد وتحدثنا معه أكد على ما قاله ابنه وأضاف أنه كان (يتفنن) في ضربه خاصة أمام أخوته ويتلذذ بشتمه والدعاء عليه والتحقير من شأنه وذلك حتى يذكره الآخرون بالشدة والحزم. والنتيجة ظهور شخصية مضطربة نفسياً وغير قادرة على خدمة نفسها أو مجتمعها أو استثمار قدراتها وإمكانياتها على النحو الجيد والمفيد . وعلى الرغم من ندم الأب وبكائه إلا أن ندمه الآن لا يفيد. لذا من هذا المنبر أحمل رسائل عنوانها المحبة والألفة والمعاملة الحسنة للأبناء ؛ فليس كافياً أن نوفر لهم المسكن والمأكل والمشرب ؛ بل ينبغي بأن نتعلم كيف نبني منهم أفراداً متوافقين نفسياً وممتلكين للصحة النفسية الجيدة والتي تؤهلهم للمواجهة الناجحة والصامدة في معترك الحياة.