كثيرة هي سوابق الفيصل ومنجزاته على الصعيدين الداخلي والخارجي .. وأكثر منها محاسنه وأفضاله التي ما فتئنا نكتشف المزيد منها كلما قلبنا صفحات سيرته العطرة التي تبرز لنا العديد من الإنجازات والمنجزات التي لن تفيها المجلدات حصراً !. إلا أننا سنتوقف اليوم عند إنجاز عالمي آخر لهذا النابغة الراحل يتجسد في مساهمته الفعالة في انضمام المملكة العربية السعودية إلى هيئة الأممالمتحدة كعضو مؤسس وفعال الأمر الذي كان له العديد من الثمرات في مسيرة البلاد وسياستها الخارجية .. فإلى التفاصيل : كانت الدول الكبرى المحالفة قد قررت ، بعد ظهور تباشير انتصارها في الحرب العالمية الثانية، إنشاء منظمة عالمية باسم (هيئة الأممالمتحدة)، تدعو إلى الاشتراك في تأسيسها الدول التي تعلن الحرب على المحور ، خلال مدة أقصاها شهر آذار من عام 1945م . وتحل هذه المنظمة محل (عصبة الأمم) لتكون أوسع اختصاصاً وأكثر نفوذاً ، فتسهم في توطيد السلام وتمنع الحروب وتهب الشعوب الاستقرار الذي تنشده ، وتقيم دعائم العدل ، فلا استعمار ولا استعلاء ولا مناطق نفوذ ولا توسع. وتألفت لجان ضمت ممثلين عن الدول الأربع الكبرى التي خاضت الحروب بالاشتراك والتضامن ، وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا والصين وفرنسا ، وأعدت بياناً مشتركاً يحدد الأغراض المنشودة من إنشاء هذه المنظمة ، ثم أرسلت دعواتها غلى الدول التي انضمت إلى الحلفاء ووقفت بجانبهم في تلك الحروب للتوقيع على هذا البيان مقدمة وتمهيداً ، ثم الاشتراك في المؤتمر الذي تقرر عقده في سان فرانسسكو في الولاياتالمتحدةالأمريكية والتوقيع على هذا الميثاق النهائي. ونتيجة لموقف المملكة العربية السعودية للدول المتحالفة تلقت الدعوة لحضور مؤتمر الأممالمتحدة تلك المنظمة الدولية ، الذي عقد في 13جمادى الأولى 1364ه في مدينة سان فرانسسكو. وكان من الطبيعي أن يستجيب الملك عبدالعزيز لهذه البادرة الدولية التي تحمل بشائر التأكيد على تحرير الشعوب واستقلالها وحقها في ممارسة حرياتها . وفي 15 ربيع الأول 1364ه كان الأمير فيصل بن عبدالعزيز نائب جلالة الملك في الحجاز ووزير خارجية المملكة العربية السعودية قد تلقى من والده الملك عبدالعزيز تعليمات بأن يبرق إلى نائب وزير خارجية الولاياتالمتحدةالأمريكية في واشنطن برغبة المملكة العربية السعودية في الانضمام إلى الأممالمتحدة ، وقد أبرق الفيصل بذلك ، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 21 ربيع الأول 1364ه جوابها على برقية سموه ، وذكرت في نهاية البرقية (أن انضمام المملكة العربية السعودية قد جعل أعضاء الأممالمتحدة 45 عضواً ، وأن الولاياتالمتحدة بوصفها أمينة على هذا التصريح ، يسرها أن ترحب بانضمام المملكة العربية السعودية إلى صفوف الأممالمتحدة). وتلقت حكومة الملك عبدالعزيز على إثر ذلك دعوة من حكومات الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا والصين وروسيا لحضور مؤتمر الأممالمتحدة في سان فرانسسكو ، الذي كان مقرراً انعقاده في 13 جمادى الأولى 1364ه . وقد أجابت حكومة المملكة العربية السعودية على ذلك بالقبول ، وترأس وفد المملكة إلى الأممالمتحدة الأمير فيصل بن عبدالعزيز نائب جلالة الملك في الحجاز ووزير خارجية المملكة العربية السعودية وقد ضم الوفد المرافق لسموه كلاً من الأمير فهد بن عبدالعزيز والأمير نواف بن عبدالعزيز والأمير عبدالله الفيصل وأسعد الفقيه ممثل المملكة العربية السعودية في العراق. وبعد وصول الفيصل إلى نيويورك في 23 ربيع الآخر 1364ه أقيم له استقبال حافل من قبل الحكومة الأمريكية . ويجب أن ندرك أن الأممالمتحدة عندما بدأت تمارس نشاطاتها كانت الدول الصغيرة تأمل في أن تحفظ حقوقها وتعامل على قدم المساواة مع الدول الكبرى . وقد حاول الصهاينة إقحام هيئة الأمم في الإسهام في تحقيق أغراضهم ومصالحهم في فلسطين ، ولكن الفيصل كان حريصاً على دعم هذه القضية العربية والإسلامية ، فعندما شعر بالتواطؤ بين الصهاينة وبعض الدول الكبرى ألقى خطاباً في الجمعية العمومية دافع فيه عن حق الشعب الفلسطيني ، وأشار فيه إلى المهمات الكبيرة الملقاة على عاتق منظمة الأممالمتحدة لتحقيق أهدافها السامية ، وأكد أن مبادئ السلم والعدالة والحق هي المبادئ التي تتمسك بها المملكة العربية السعودية ، لأنها نابعة من الدين الإسلامي الحنيف ، الذي تعتبره المملكة العربية السعودية دستوراً لها. لقد نادى الفيصل في الأممالمتحدة بأن يرتفع صوت الحق ويخفت صوت الباطل ، فيقف الجميع في وجه المعتدي ، ويبذل الجميع كل جهد لتحقيق السلم والأمن العالمي. ولما تم إقرار ميثاق الأممالمتحدة في 16 رجب 1364ه ألقى الفيصل كلمة جسدت الموضوعية التي يتحلى لها ، ناهيك عن بعد النظر والتحليل العميق ، وكان مما قال : (إن هذا الميثاق لا يدل على الكمال كما كانت تتوقع الأمم الصغيرة التي كانت تأمل أن يحقق المثل العليا ، على أنه كان خطوة كبيرة إليها ، وسنعمل كلنا للمحافظة عليه ، وسيكون الأساس المتين الذي يبنى عليه صرح السلام العالمي). وكان الفيصل حريصاً كل الحرص على استتباب الأمن والسلم في العالم ، ومما يؤكد ذلك أنه لما تقدم للتوقيع على تصريح الأممالمتحدة ألقى كلمة أعرب فيها عن سروره بتمثيل بلاده ، ثم قال : (إن الحكومة العربية السعودية لتنضم إلى الأممالمتحدة في تصريحها القائل بأن مبادئ السلم والعدالة والحق يجب أن تسود أنحاء العالم ، وأن العلاقات الدولية يجب أن تقوم على هذه المبادئ) ثم قال : (وإن من دواعي اغتباطي العظيم أن أقول إن هذه المبادئ تطابق تعاليم الدين الإسلامي الذي يعتنقه 400 مليون في العالم ، وهي التعاليم التي اتخذت الحكومة السعودية منها دستوراً تسير على هديه ولا غرو بأن الإسلام قد أقام العلاقات البشرية على قواعد الحق والعدالة والسلم والإخاء). وقد قضى الفيصل عدة أيام في نيويورك وهو في طريق عودته إلى الوطن ، واجتمع فيها بكبار رجال وزارة الخارجية الأمريكية ، وتباحث معهم في القضايا التي تهم البلدين . وقد صدر بلاغ رسمي في واشنطن جاء فيه : قضى سمو الأمير فيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأيام القليلة الماضية في واشنطن في طريقه إلى بلاده عائداً من مؤتمر الأممالمتحدة في سان فرانسيسكو . وقد خصص موظفو الخارجية الأمريكية حسب طلب سموه اليومين الأخيرين للتداول معه والوفد المرافق له لبحث الموضوعات التي تتصل بالمصالح المتبادلة بين الحكومتين ، ودار البحث بينه وبين جوزيف غرو وزير خارجية أمريكا بالوكالة ولوي هندرسن مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى وإفريقية ، وعدد كبير من رجال السياسة والاقتصاد في وزارة الخارجية ، وبعض الوكالات الحكومية ذات العلاقة ، وقد ساعدت هذه المباحثات على تمكين كل من الحكومتين من معرفة مشكلاتها الخاصة بها وتذليلها. كما صدر مرسوم ملكي بتوقيع الملك عبد العزيز بالتوقيع على ميثاق هيئة الأممالمتحدة وتصديقه ، وبهذا أصبحت المملكة العربية السعودية من بين الدول الأعضاء المؤسسة في منظمة الأممالمتحدة. وهكذا فقد زاد حجم التمثيل الدبلوماسي في المملكة العربية السعودية خصوصاً مع الدول التي انضمت إلى هيئة الأممالمتحدة ، إضافة إلى الدول التي استقلت بعد أن تحررت من الاستعمار بعد كفاح طويل ، وبعد ما لقيته من دول منظمة الأممالمتحدة من دعم وعون ومساعدة من أجل حصولها على الاستقلال. وهكذا يتضح لنا بجلاء الدور الكبير الذي نيط بالفيصل في مراحل شبابه الأولى في دمج المملكة العربية السعودية مع الدول الكبرى ، وإعطاء المملكة السمعة السياسية المرموقة على جميع الأصعدة، ومما يدل على علو مكانته رحمه الله أن تم اختياره في عام 1367ه لإلقاء كلمة الوفود العربية الممثلة في هيئة الأممالمتحدة ، ولذلك ليس غريباً على مثله أن يقوم بهذا الدور لخبرته الطويلة في حضور المحافل الدولية وترؤسه لوفد بلاده في مؤتمرات عالمية كثيرة ، فضلاً عن اهتماماته البارزة في كل مؤتمر عالمي بالقضايا العربية والإسلامية.