حدثان وقعا في نفس اليوم لا يفصل بينهما سوى سويعات قليلة؛ الأول كبير جدًّا لأثره في حياة الناس، ولدلالته القوية على تغير المجتمع، وامتلاكه زمام المبادرة ورفضه للوصاية ممن يقررون عنه ما يصح وما لا يصح وما يجب وما لا يجب، وأثبت ذلك الحدث أن المجتمع استعاد قراره الذي سُلب منه زمنًا طويلًا بدعاوى واهية لا تثبت أمام شرع ولا عقل ولا سياق تاريخ المجتمع. ذلك الحدث هو فوز عشرين مرشحة في الانتخابات البلدية في الدورة الثالثة لها، وأول دورة تشارك فيها المرأة السعودية، والدلالة القوية لذلك الفوز ليست في العدد الكبير للفائزات من أول انتخابات فقط، بل لأن الفوز شمل جميع مناطق المملكة المحافظة جدًّا منها والأقل محافظة؛ ففي الوسط الرياض والقصيم، وفي الشرق الأحساء والقطيف، وفي الشمال حائل والجوف، وفي الغرب مكة والمدينة وجدة، وفي الجنوب عسير وجازان، وهو ما ألجم بعض المتفلسفين العاشقين للتصنيف المناطقي بما يشبه التفاضل الطبقي والعرقي. وتلك الانتخابات وفوز المرشحات بمقاعد المجالس البلدية، وبعضهن بفوارق صوتية كبيرة عن الرجال أسقط آخر معاقل المتحزبين الإسلاميين ممن كانوا يصرون على فرض وصايتهم على المجتمع، خصوصًا أن أقوى فوز للمرشحات وقع في مراكز قوتهم التقليدي. أما الحدث الثاني في ذلك اليوم فكان بسيطًا جدًّا في حجمه، لكنه قوي جدًّا في إسقاطه للمعسكر الثاني من المتحزبين، فلم يستطيعوا تحمل حدث ديمقراطي بكل المقاييس، وأرادوا تحويله إلى مقصلة للطرف الآخر وإيهامه والمجتمع بأنه يعني انتصارهم على الطرف الآخر. ذلك الحدث وقع أثناء أمسية شعرية على هامش فعاليات معرض جدة الدولي للكتاب، حيث قام أحد الحاضرين ممن لم يعجبه جرأة الشاعرة بما لا يليق بها حسب رأيه، قام بالاعتراض بأدب وديمقراطية، ثم أخرجه القائمون على المعرض دون مقاومة منه، ولم يتصرف بطريقة غير لائقة، وحين أراد استمالة الحاضرين لرأيه رد البعض بعدم الموافقة على تصرفه فخرج. الحدث بكامله ديمقراطي بامتياز من الشاعرة والمعترض والحضور والمنظمين، أقول ذلك لأني كنت حاضرًا، وأشباهه يقع في أعتى الديمقراطيات في العالم، بل ويحدث أكثر من ذلك، فقد يقذف المعترض وجه المتحدث بما لا يعجبه ولا يتفق مع توجهه ومعتقداته بما في يده. لكن المتحزبين من اللبراليين لم يرضهم تصرف أحد المنسوبين مظهرًا للطرف الآخر بديمقراطية، فقد كان جالسًا ولمّا لم يعجبه المضمون اعترض عليه وتعامل المجتمع معه بديمقراطية وكذلك المنظمون، وبدل الإشادة بحضارية الجميع شن المتحزبون هجومًا شرسًا على ذلك المعترض وعلى الطرف الآخر. والسقطة الكبيرة للمتحزبين اللبراليين لم تكن في تجاوزهم المفترض لحدث بسيط لا يستحق كل تلك المقالات والتغريدات والمقابلات والتعليقات، فضلًا عما لقيه المعترض من تجنٍّ وشماتة وتحليل ميتافيزيقي لحالته النفسية والعقلية والمعرفية لا يمت بصلة لما شاهدته بعيني، السقطة كانت في أنهم يرفضون حق الآخر في التصرُّف بحرية كاملة في الاعتراض على ما يراه غير مناسبٍ بديمقراطية كاملة، ويهدمون كل ادعاءاتهم عن الديمقراطية وحرية الرأي وحق الاعتراض، فما الذي فعله الرجل غير ذلك؛ لتشنوا عليه كل تلك الحملة التي ما زالت مستمرة حتى كتابة هذه الأسطر؟! ثبت من هذين الحدثين أن المجتمع السعودي قد ارتقى فكرًا ووعيًا وتصرفًا متجاوزًا نخبه من الحزبيين بشقيه؛ بانتخابه المرأة وتعامله بهدوء وديمقراطية مع المحتج، ويثبت ذلك التعليقات الكثيرة المتزنة في مواقع التواصل الاجتماعي عن الموضوعين، فإلى متى يستمر هذا العبث بين الطرفين الذي أصبح مادة دسمة للإعلام الغربي؛ لتشويه سمعة المملكة دينًا وحكومةً ومجتمعًا؟! تويتر abdulkhalig_ali [email protected]