منطق حراك التكتُّلات الاقتصادية من أجل تحريك المياه السياسية الراكدة، لا يزال يؤتي أكله في الدبلوماسية السعودية، خصوصًا في الأشهر القليلة الماضية، فيما بعد اختصار المجالس الاستشارية على المستوى السعودي في مجلسين فقط: مجلس الشؤون الأمنية والسياسية، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. إنه منطق الذراع "القوي جدًّا" الذي يربط السياسة بالاقتصاد، إذ يكفي التخطيط والتفكير والتعاطي في شأن سياسة وأمن الوطن، في نفس وقت الحديث عن اقتصاد وإنماء البلد. والمملكة العربية السعودية التي باتت فعليًّا من بضع سنوات ضمن كبار العالم ال20 اقتصاديًّا وسياسيًّا، تترقب لعب المزيد من الأدوار الإقليمية والدولية ذات التأثير، مع تعاظم دورها وتأثيرها بالفعل على الصعيدين الإقليمي والدولي. ولعل استضافة الرياض للقمة العربية اللاتينية الرابعة، قبل أربعة أيام من قمة العشرين في تركيا، يعطي المزيد من دلالات المضي قدمًا في درب إثبات "الأثر السعودي" عالميًّا وفي محيط الإقليم، شاء من شاء، وأبى من أبى. ثلثا نفط العالم في القمة وقبل أن تبدأ القمة العربية اللاتينية، أو قمة "الأسبا"، جمع المنتدى الرابع لرجال الأعمال العرب ونظرائهم في أمريكا اللاتينية 350 شخصية، لتناول الشؤون الاقتصادية المشتركة، لقطع أشواط ونتائج من خلالها، قبل بدء قمة رؤساء الدول، وإصدار إعلان الرياض. ولعل العالم العربي وأمريكا الجنوبية يتقاسمان الكثير من الجوانب المشتركة، كما تشترك المنطقة العربية وأمريكا الجنوبية الرؤى ذاتها فيما يخص تحقيق التنمية والعدالة، كما أنهما يحويان أكثر من ثلثي الاحتياطي المعروف من النفط، وموارد اقتصادية مهمّة؛ لهذا فإن قيام منطقة تجارة حرة بين العالم العربي وأمريكا الجنوبية يخلق ديناميكية جديدة في الواقع الاقتصادي لكلا المنطقتين، لاسيما في مجالات تبادل الاستثمارات المباشرة، والتعاون الصناعي والزراعي، وفتح أسواق كبيرة للتبادل التجاري، واستقطاب التكنولوجيا المتطوّرة من دول أمريكا الجنوبية. لهذا كان المنتدى الرابع للأعمال والقمة "الأسبا" الرابعة، بمثابة فرصة ثمينة لبحث وتطوير التعاون السياسي والاقتصادي بين البلدان العربية واللاتينية؛ من أجل تفعيل دور الدول الناشئة المحورية، مثل البرازيل والسعودية، في مجموعة العشرين وفي أروقة النظام المالي العالمي؛ بهدف المشاركة الفاعلة في خلق نظام مالي عالمي جديد أكثر عدالة وإنصافًا وشفافية. أرقام بين قلب وعقل الاقتصاد والسياسة عندما لفت رئيس الغرفة التجارية العربية البرازيلية الدكتور مارسيلو نبيه سلوم، خلال مشاركته في منتدى الأعمال العربي اللاتيني، الذي سبق القمة، أكد بالأرقام قفز حجم المبادلات من 13.6 مليار دولار إلى 35 مليار دولار، بزيادة 156%، مع أنه حراك باتجاه البرازيل فقط. لكن هناك اقتصاديات ناهضة في الأرجنتين وفنزويلا وأوروجواي؛ ما يشير إلى إمكانية صنع تكتلات أكثر قوة وتأثيرًا، يمكنها أن تفرض أدورًا سياسية على أصعدة مختلفة. وهنا تتحقق بالفعل حقيقة تحريك عقل السياسة بواسطة قلب الاقتصاد، على اعتبار أن تأثير الاقتصاد عاطفي أكثر، سواء كان انتعاشًا أو انكماشًا، وتأثير السياسة عقلاني سواء كان صانعًا للفرح أو الغضب. ولعل رئيس الغرفة التجارية العربية البرازيلية، كان محقًّا حينما دعا كلا الجانبين العربي واللاتيني لمواصلة الجهود والعمل على إبرام الاتفاقيات الرامية لتنمية وازدهار العلاقات الاستثمارية، خاصة أن دول الإقليمين تمتلك أكبر احتياطي للنفط والغاز، ناهيك عن المواقع الجغرافية الإستراتيجية، والبنية التحتية للمطارات وغيرها، والمقومات السياحية، ورأس المال البشري الفعال. السعودية تستضيف القمة ب"ثمارها السياسية" ويعلم القاصي والداني أن المملكة العربية السعودية وهي تستضيف القمة العربية اللاتينية الرابعة في توقيت ملائم قبل قمة العشرين في تركيا، تواصل جهودها السياسية الفاعلة في الإقليم، التي تبدو كما "الثمار اليانعة" للمستفيدين منها، إذ تدعم الشرعية في اليمن وتقاتل الحوثيين والعملاء بعمليات "عاصفة الحزم" و"إعادة الأمل" المستمرة، وتدافع عن شعب سوريا للخلاص من شبح بشار الأسد وزبانيته، كما تسعى حثيثًا لدعم وحدة العراق واستقلال قراره، وتقف وقفة الأخ لأخيه مع مصر حتى تعيد استقرارها الاقتصادي، ومع ليبيا حتى تعيد وحدتها الحكومية، وفوق ذلك كله تلاحق المنظمات الإرهابية في المنطقة أمنيًّا واستخبارتيًّا ودبلوماسيًّا، من خلال الحراك المستمر مع كبار العالم في هذا الشأن. ولن تمر كل هذه الخطوات مرور الكرام، على قادة الدول المشاركة في القمة العربية اللاتينية، خصوصًا زعماء أمريكا الجنوبية، الباحثين عن ترسيخ ملامح الاستقرار السياسي في المنطقة الشرق أوسطية؛ من أجل تأكيد الاستقرار الاقتصادي والتنموي، بما يدعم مجالات التعاون المشتركة التي تهدف إليها قمة "الأسبا".