فور سماعهما بقصته حقق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، أمنية مواطن احتفظ بها في صدره لمدة 5 عقود تقريبًا ولطالما تمناها. تفاصيل الواقعة تعود إلى صباح يوم من أيام عام 1394ه، حيث استيقظت قرى الظهارة بضواحي محافظة النماص – في عهد الملك فيصل، رحمه الله، على أصوات لا عهد لهم بمثلها، إنها أصوات معدَّات شركة ابن لادن وهي تشق طريق الطائف – أبها، حيث أعداد كبيرة من العمال الأجانب، يشرف عليهم كبير المهندسين الألمان (الخواجة)، والمعلم محمد بن لادن في سيارته، التي يجتمع حولها أطفال القرى يراقبونها بذهول، يراقبون العمل خطوة بخطوة. يخرج مدير متوسطة الظهارة محمد بن عبدالله بن ناشع، الذي خُلق بيد واحدة لا غير، متجهاً لعمله، ويمرُّ بالموقع، فيتقدم بعزيمة لكبير المهندسين الألماني ومن معه من العمال، على عادة أهل القرى، وكان الحديث عن طريق المترجم المصري (راضي)، وقبل أن يقبل الخواجة عزيمة القروي ذي اليد الواحدة، قال له: أنا أشرفت على تنفيذ المشاريع من الطائف إلى أقصى الجنوب وما مرَّ بي من أصرَّ عليَّ كل هذا الإصرار، فما السرُّ في ذلك؟ أجاب ابن ناشع: السبب في ذلك أمران: الأول: أنك ضيف على الوطن، وأنا سأضيِّفك باسم الملك فيصل في بيتي؛ تعبيراً عن شكري وشكر أهل هذه المنطقة لجلالته، وعن تمسكنا بقيمنا وعاداتنا التي من أعلاها: أن نُدخل الضيف بيوتنا ونكرمه فيها. الثاني: أن ديننا وعاداتنا تأمرنا بإكرام الضيف دون النظر إلى جنسيته أو دينه أو مذهبه أو لونه. قبل المهندس العزيمةَ التي قُدِّمت له ولمرافقيه على أكمل الأصول المتبعة في بلاد بني شهر، وبعد الغداء كتب المهندس عنوانه في ألمانيا، وطلب من الشيخ أن يتواصل معه بعد انتهاء المشاريع وعودته لألمانيا؛ ليتقدم بطلب إلى الحكومة الألمانية؛ لترسل للشيخ ابن ناشع سيارة (بينز مرسيدس) تتناسب مع وضعه الجسدي، ليتمكن من قيادتها بيد واحدة. مرَّت الأيام، وأصبح ولد الشيخ ابن ناشع (عبدالله) الذي شهد كل تلك الأحداث وهو طفل في الثانية عشرة من عمره، شاباً يافعاً، وطلب من والده زيارة المهندس الألماني لاستنجاز ما وعد به، ولكن الأب كان له رأي آخر: يا ولدي، قبل دولة ابن سعود ما كنا نتجاوز شيخَ القبيلة لنطلب العون من غيره، فكيف وقد أصبحنا في ظل هذه الدولة الراشدة نتجاوز أئمتنا وحكامنا ونطلب العون من ضيفٍ غريب أكرمناه في منزلنا، هذا عيبٌ ولا يمكن أن يكون! وأصرَّ على موقفه. ومرَّت الأيام، وأصبح الشيخ محمد بن عبدالله بن ناشع، بعد رحلة طويلة من طلب العلم، إماماً من أئمَّة الشرع، وعلماً من أعلام المؤرخين في المملكة العربية السعودية، يقصده طلاب العلم من كل مكان، وتوثَّقت الصلات بينه وبين الأمير تركي بن طلال بن عبدالعزيز على مدى سنوات، قبل أن يصبح نائباً لأمير منطقة عسير، ووعده الأمير تركي بزيارته في منزله عدة مرَّات، ولكن الظروف كانت تحول دون ذلك. وفي يوم السبت 23 من شهر شوال عام 1439ه زار الأمير تركي، الشيخ في منزله، الذي استقبله فيه مع أبنائه وأقاربه، وأعيان قبيلته، ومجموعة من طلاب العلم الذين وفدوا عليه ذلك اليوم، وفي أثناء الجلسة يستمع الأمير تركي للمرة الأولى لقصة ابن ناشع مع المهندس الألماني التي مضى عليها 45 سنة من ابنه (عبدالله). أدرك الأمير تركي أن هذا الموقف لا بد له من “وقفة تقيِّده” في تاريخ هذا الوطن العظيم، بعد أن كادت يد النسيان تطويه، فاستأذن الشيخ ابن ناشع وابنه في إعادة سرد القصة، ووثَّقها بجهاز هاتفه الخاص، لعمله اليقيني أن نهج ولي العهد هو حرصه المعهود على كل شأن يهم المواطنين الذي هو ديدن هذه الدولة منذ مئات السنين، فأرسلها في اللحظة نفسها إلى سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وشرح له ما وقع في تلك القرية الصغيرة الحالمة في أعالي جبال السروات، وقبل نحو نصف قرن من الزمان. وفي المجلس نفسه وجه ولي العهد الأمير تركي بإيصال رسالة للشيخ ابن ناشع وأبنائه مضمونها: “لو كان الملك فيصل، رحمه الله، حياً لشكرك على هذا الموقف الوطني النبيل، وأنا باسم الملك فيصل، رحمه الله، وباسم سيدي خادم الحرمين الشريفين، وباسمي أبلغك الشكر الجزيل، وسنلتقيك قريباً إن شاء الله”. وفي اليوم التالي اتصل السكرتير الخاص لخادم الحرمين الشريفين بالشيخ ابن ناشع، وأبلغه بتقديمه حفظه الله، سيارتين من نوع (بينز مرسيدس) إحداهما له، والأخرى لولده، عوضاً عمَّا كان المهندس الألماني قد وعد به، وتصديقاً لظن الشيخ ابن ناشع في ولاة أمر هذا الوطن. دولة لا تنسي رجالها المخلصين وإن طال الزمن، هي دولة يخلدها الزمن.