تناول فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن محمد آل طالب في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم ، سورة يوسف عليه السلام بالشرح والتفصيل. وقال فضيلته: إنها سورة نزلت بمكة، وإن للسور المكية لعبقا وألقا، وفيها ما في السور المكية من تقريرِ التوحيد، والبعثِ والجزاء، والرسالةِ والقرآن، وبيانِ عاقبة الفريقين، لافتاً أنه من تأمل في هذه السورة خبرَ نوح وجهرَه بالدعوة، وخبرَ موسى وقومِه واتخاذَهم بيوتَهم أماكن للصلاة، خُيِّل إليه أن هذه السورة نزلت في خاتمة أيام الدعوة السرية، قبل أن يجهر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالدعوة ، فهي من أوائل ما نزل في مكة, وذواتُ ألف لام راء خمسُ سور، كلُّ سورة منها تحمل اسم نبي، وهي يونسُ وهود، ويوسفُ وإبراهيم ، والخامسةُ الحِجر ديارُ ثمودَ قومِ صالحٍ عليه السلام، مبينا أن البشارةُ والنذارة، وظيفةُ الرسل وأتباعِهم إلى يوم القيامة ، إنذارُ الناس وبشارة المؤمنين ، لا يقتصر الداعية على إحداهما دون الأخرى: قال تعالى ” إنا أرسلنا شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا “. وأضاف يقول: آيةُ هذا الرسول الكريم : هذا القرآنُ العظيم ، يتلوه عليهم ، ويقرَعُ به أسماعَهم، ويتحداهم به، “يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون”، موضحاً أن القرآن معجزة النبي محمدٍ صل الله عليه وسلم, وهذا من أعظم دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد لبث في قومه أربعين سنة قبل أن يوحى إليه، وهم يعرفون صدقه وأمانته، فلم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذبَ على الله؟! كما قال هرقلُ في حديث أبي سفيانَ الطويل . وأبان فضيلته أن في هذه السورة ذَكَرَ اللهُ خبرَ ثلاثةٍ من الرسل الكرام ، وهم نوحٌ وموسى ويونسُ عليهم وعلى نبينا محمدٍ أفضل الصلاة والسلام ، ولما كانت السورة في إثبات الرسالة، ناسب أن يُذكرَ هؤلاء الرسلُ الثلاثة ، فنوحٌ أولُ رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد أن وقعوا في الشرك ، وكانوا قبل ذلك كلُّهم على التوحيد , ورسالة موسى عليه السلام أعظمُ رسالة بعد القرآن ، ولهذا يقرن الله بينهما في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى: ” فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بِكُلٍّ كافرون * قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين”, وأما يونس عليه السلام فإنه رسول كريم، بعثه الله إلى أهل نينوى، فلما كذبوه لم يصبر وذهب مغاضبا، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ” فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت”. وواصل قائلا: مناسبةٌ أخرى في ذكر نوح وموسى عليهما السلام .. وهي أن الله ذكر في هذه السورة قولَ المشركين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ” ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين” فناسب أن يُذكرَ نوحٌ عليه السلام فإن الله لم يذكر له في القرآن معجزةً وآية، كما ذكرَ موسى عليه السلام الذي آتاه الله تسع آيات بينات، ” قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون” ، ” وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون”, ومناسبةٌ أخرى وهي اختلافُ النهايات وعاقبةِ أقوام الرسل الثلاثة، فنوح عليه السلام كذبه قومه فأغرقهم الله ، وما آمن معه إلا قليل ، وموسى عليه السلام آمنت به بنو إسرائيل ، وكانوا سَوادا عظيما ، وكذبه فرعون وقومه فأغرقهم الله , ويونس عليه السلام آمَنَ قومُه أجمعون ، وذلك أنه لما خرج من بين أظهرهم ورأوا العذاب الذي انعقدت أسبابه، جأروا إلى الله وتضرعوا إليه، فكشف الله عنهم العذاب ” فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين” ، فكأن السورة تقول لنبينا محمد صل الله عليه وسلم : ليس عليك هُدَىَ قومِك ، وإنما عليك الدعوة والبلاغ ، وعاقبةُ أمرهم إلينا , بل قد قالت السورة ذلك بأفصح بيان: ” وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون” . وأردف قائلا : ومناسبةٌ أخرى وهي أن نوحا وموسى عليهما السلام من أولي العزم من الرسل، الذين جمعوا الاتباع والصبر ، وَأَمَرَ الله نبيه محمداً ص أن يقتديَ بهم: ” فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل”, فنوحٌ عليه السلام بقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ودعاهم ليلا ونهارا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارا، وما غيَّر ولا بدَّل , وموسى عليه السلام بعثه الله إلى فرعون داعيا، وكان من أمره ما كان، ثم لقي من بني إسرائيل ما لقي، وكان نبينا محمد صل الله عليه وسلم إذا آذاه قومه قال: ” يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر” , فكأن هذه السورة تقول لنبينا محمدٍ صل الله عليه وسلم : اصبر كما صبر نوح وموسى ، ولا تكن كصاحب الحوت . وأوضح فضيلة الشيخ الدكتور آل طالب أنه من لطيفِ العلم ومُلَحِه أنَّ لكل واحد من هؤلاء الرسل الثلاثة خبراً مع الماء، فنوحٌ أغرق الله قومه بماء منهمر، وفجَّر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر، وأنجاه الله ومن معه في الفلك المشحون، على ذات ألواح ودسر , وموسى عليه السلام فلق الله له البحر، وجاوز ببني إسرائيل، ثم غرَّق الله فرعونَ وقومَه , ويونسُ عليه السلام ركب البحر في الفلك المشحون ، وكان في بطن الحوت في ظلمة البحر، في ظلمات ثلاث . وأفاد فضيلته أن رسولُ الله صل الله عليه وسلم – وهو الرحيم الشفيق- يدعو قومه ويحرصُ على هدايتهم ، حتى لتكادُ نفسُه تذهبُ عليهم حسرات ، فيقول الله له : ولا تحزن عليهم ، لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين ، ويقول له : ” وإن كان كَبُرَ عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ” ويقول الله في سورة يونس: ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون” لافتا أن من ظن يوماً أنه يستطيع هداية الناس أجمعين أو جمعَهم على كلمة الحق الواحدة فهو مخطئ إنَّ هذا خلافُ سنة الله وتقديره، وخارجٌ عن قدرة البشر، ولا يزالون مختلفين مبينا أن من الواجب على الداعية أن يقوم بما أمره الله به، وأن يبلغ الدعوة إلى الناس ، وإن عليك إلا البلاغ . قل كما أمر الله نبيه أن يقول: ” قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين , وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين , ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين” وهذا في حقيقته غاية التثبيت واليقين . وبين فضيلته أن في ختام السورة ” قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل , واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين” , إنهما الأصلان العظيمان المتلازمان: ” واتبع ما يوحى إليك واصبر” , اتباع الوحي، والصبرُ على وَعْثاء الطريق ، ومن جمع هذين الأمرين فقد سار على طريق الأنبياء ودعوتهم ، ومن نقص منهما فقد نُقص من أمر دعوته بقدر ذلك مؤكدا أن ما وقعت فرقٌ وأحزاب وجماعات من المسلمين في التحريف والتبديل وتهوين التمسك بالشريعة إلا بتضييع أصل الاتباع ، وما وقعت طوائفُ في الغلو والخروج إلا بتضييع الأصل الثاني وهو الصبر , والهدى هدى الله الجامعُ بين الصبر والاتباع ” واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ” وأوضح الشيخ الدكتور صالح آل طالب أنه لم يكن أحدٌ أكرمَ على الله من أنبيائه ورسله ، ومع ذلك فإن حياتَهم عموماً وزمنَ بعثتهم خصوصاً قد انقضت في مخالطة المشركين ومجادلتهم، تضمهم المجالس وتجمعهم المواقف ، يسمع أنبياءُ الله من أقوامهم ما يكرهون ، يرون الشرك ويبصرون المنكر وهم له مبغضون وشانؤون . ومع أنهم أعرف الناس بجلال الله وأغيرهم على حرماته ، إلا أن ذلك لم يَثنِهم عن الدعوة والبيان ، والنصح والرحمة والصبر والدَّأَبِ في استنقاذ من سبقت له الرحمة وخُطّ اسمه في كتاب الفائزين مشيرا إلى أنه مع أن الحزن على فشو المنكر من سيما الصالحين ومن دواعي مثوبتهم، إلا أن الله أنكر على نبيه التمادي فيه لئلا ييأس ويترك . فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات . فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا… وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين . وأبان فضيلته أن الكفر والفسق في هذه الحياة تبتلى به طائفتان ، فيبتلى المتلبسون بهما عافانا الله وإياهم ، كما يبتلى الصالحون بالكافرين والفاسقين ، لينظرَ اللهُ كيف يَثبُتُون ويَنصحون ويُصلحون وأن مَن مَنّ الله عليهم بالعيش في مجتمع محافظ في غالبِه ، قد يُصعقون إذا رأوا مالم يكونوا يعهدون ، وما علموا أن خيرة خلق الله وخُلّص أصفيائه قد عايشوا ما هو أشد على النفس وأنكى ، ومع ذلك قاموا بواجبهم ، وكانوا يعلمون أن ثمار ذلك العمل موكولٌ إلى الله ، فقد يزهر الثمر وقد يخبو . وأكد فضيلته أنه في كل الأحوال لا مناص من النصح والدعوة ، ولا محيص عن الصبر والاحتساب . وإذا قام الإنسان بوسعه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ورفع الحرج من الله بعد استنفاد الوسع لا قبله . ” إن عليك إلا البلاغ ” , ” بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ” إن لم تفعل البلاغ ، أما الهداية فليس عليك هداهم لافتا أنه لابد من توطين النفس على تحمل الأذى والبيان ، وعلى احتساب الأجر ورحمة الخلق، حتى المخالفين منهم والمناوئين ، فقد قال الله عن نبيه: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. لكل العالمين، إنسهم وجنهم وبرهم وفاجرهم . وإن لهذا الدين إقبالاً وإدبارا ، فالنقص لا يعني نهاية الدين والتدين وإنما هي سنة الله ومرحلة من مراحل أطوار هذه الأمة ، ليميز الله الخبيث من الطيب وليعلم الله المؤمنين . إن إدراك هذه المعاني والتي دلت عليها سورة يونس كفيل بتحقيق اليقين والثبات ، وباعث على سعة الأفق وتحقيق التوازن في النظر إلى الحوادث والتعامل مع المتغيرات ” واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين “