قد يظن سامع المثل الحجازي: «زيّ الناس، لا باس» أن المقصود هو أن ما يفعله الآخرون ويرتضونه لأنفسهم يصبح بالضرورة صالحًا لغيرهم، فلا بأس على الفرد من أي فعل ما دام الناس يفعلونه، وهذا هو القانون الحاكم للموضات والصرعات والفرقعات. رسالة المثل الظاهرة هي ضرورة أن يسير الفرد في ركاب المجموعة، ففي الاتفاق أمن وسلامة، وفي الاختلاف مهالك وندامة. طوال مراحل نشأتي وتكويني لا أذكر أنني قد ذهبت إلى أبي طالبة الإذن منه لعمل شيء ما، ثم دافعت عن مطلبي بالتعليل السائد: «كل الناس يفعلون»، إلا وخسرت ذلك المطلب إلى غير رجعة، فلم يسمح بالمدرس الخصوصي ولا بالسفر في الصيف ولا بالرحلة المدرسية ولا بزيارة صديقاتي، ولا أشياء أخرى لم يقبل بها رغم أن كثيرًا من الناس كانوا قد قبلوها وصارت عندهم من العادات الحسنة. كان رحمه الله يقول: «مالنا وللناس؟ نحن نفعل ما يناسبنا ولن نسير وراء غيرنا دون تفكير أو اختيار». حينها لم تلقَ كلماته في نفسي سوى الغضب والإحساس بالغبن والحرمان، لكني أدرك الآن أنه كان يدربنا على الاستقلالية في الرأي، وعلى عدم الاهتمام بما يقوله الآخرون أو ما يفعلونه أو ما يقتنونه، وعلى الإحساس بالسعادة لتحقيق أهدافنا الخاصة بنا. على الجانب الآخر كانت هناك سيدة من معارفي لا يتفق مع تصرفاتها إلا القليل، فهي جريئة ومنطلقة ولا تنتظر الناس ليفعلوا فتفعل، بل تمتلك قياد نفسها وتبادر دون قلق أو وجل، حتى إن سألناها مباشرة: كيف تفعلين هذا أو ذاك؟ ماذا سيقول عنك الناس؟ كانت تجيب: «ما عليّ من الناس، أنا أعيش حياتي كما يريحني ولن أربك نفسي بآراء الآخرين». في كثير من الأحيان كان من يستهجن فعلها في البداية ينتهي به الأمر إلى تقليدها ومن اعترض على مسلكها يسير في دروبها، فتصبح هي «الناس» وهم «زيّها». وسواء مارسنا على حياتنا ضغوطًا مانعة، أو رفعنا عنها قيودًا وأطلقناها، فالمهم هو ألا نكون إمّعات لا نُتقن إلا التقليد الأعمى. في مجتمعنا تقوم فئات المعارضة لكل جديد بالوقوف في وجه اختيارات الغير بشراسة لتمنعها، فمن يطالب بقيادة المرأة للسيارة يعارضون اختياره ويعدّدون مساوئ القيادة وكأن قرار السماح لو صدر فلن يستطيع المعارض أن يمنع نفسه من التطبيق لأنه حتمًا سينساق وراء الناس ويفعل مثلما فعلوا. وهذا الاندفاع وراء الفعل الجماعي بعد معارضته والاصطفاف ضده أمر واضح في تاريخ تطور المجتمع السعودي، فكل تغيير حلّ علينا سبقه صراع ومقاومة شديدة، حتى إذا أصبح واقعًا تسارع المعارضون إلى صفوفه الأولى وتغيّروا «زيّ الناس». إن تطالب جماعة من النساء بإسقاط ولاية الرجل، تقوم جماعة أخرى بالمعارضة وتقول إنها فخورة بولي أمرها لتقطع الطريق على الجماعة الأولى. إنْ تحمّس الناس لفكرة الترفيه في الداخل وعبّروا عن فرحتهم بالغناء والرقص والانبساط، تعارضهم جماعات تُحرّم وتُجرّم وتُخرّب الممتلكات العامة. أي مانع قد يعوق امرأة تحمل قرارا يسمح لها بولاية أمرها من أن تضع نفسها طواعية في يد ولي هي فخورة به؟ وهل من المستحيل أن يقاوم المعارض للترفيه سحر الانجذاب لمواقع الفعاليات الترفيهية؟ هل لسان حالهم يقول: سأمنعكم من فعل ما لا أريد كي لا أضطر إلى فعله معكم و»زيّكم»؟ باطن الحكمة في المثل الشعبي «زيّ الناس، لا باس» يفصح عن نقد لاذع لكل إمّعة ضعيف لا يملك أمر نفسه حين يجدها منساقة لتقليد الناس بلا قناعة ولا احتياج ولا رغبة حقيقية.