عندما فكرت في الكتابة عن شخصيات سعودية ألهمت بكفاحها وإنجازاتها كل من جاء بعدها ولم تنل نصيبها من الأضواء، لم أجد أقرب ولا أنسب ولا أوجب من البدء بالمؤرخ والنسّابة والجغرافي والأديب عاتق البلادي - يرحمه الله - ليس لأن «الأقربون أولى بالمعروف « فقط ؛ بل وليقيني التام أيضاً أن هذا العالم الموسوعي المُلهم الذي صنّف قرابة الخمسين مؤلفاً (قبل عصر الانترنت وجوجل) لم يحصل على (ربع) ما يوازي عطاءاته . التقط صاحب ( معجم معالم الحجاز ) أول أنفاسه على سفح أحد جبال بادية مكة ، وبالتحديد في مكان يدعى (مْسِر) حيث ولد الشيخ عاتق بن غيث البلادي ؛ ثالث أيام عيد فطر العام 1352ه ، ونشأ متنقلاً في تلك البيئة البدوية راعياً للغنم ومتأملاً في طبيعة جبالها وأوديتها ، حيث كان والده مجيداً للشعر ،عارفاً بالأنساب ، وكانت تلك البيئة مدرسته الأولى التي كونت شخصيته العصامية ، وحددت توجهاته التاريخية والجغرافية والأدبية. عندما توفي والده في العام 1364 ه لم يترك له الشيء الكثير ، فاضطر الطفل الأمي (المتطلّع ) للعمل جمَّالاً ( ينقل الناس على جمله بأجر ) قبل أن ينتقل إلى مكة بعد أن ألحق الموت والدته بوالده ، وهناك كان التحول الأكبر في حياة الطفل اليتيم بعد أن التحق بالمدرسة السعدية وبحلقات المسجد الحرام ، وأظهر نبوغاً لافتاً حين انكّب على أمهات الكتب يلتهمها بفهم النجباء ، وما إن حصل على الابتدائية حتى سارع بالانضمام للجيش الذي وصل فيه الى رتبة (مقدم) قبل أن يتقاعد للتفرغ للعلم . أكثر ما ميز مؤرخ الحجاز وعاشق مكة أنه كان عالماً من طرازٍ نادرٍ، تخطى ضيق التخصص إلى سعة العلماء الموسوعيين فقد كان جغرافياً فذاً، لم يكتفِ بالنقل ومعالجة العلم بين الكتب والأوراق ، بل كانت له رحلاته الخاصة في جزيرة العرب التي وقف فيها على كثير من الأمكنة والمشاهد .. وكان نتاج تلك الرحلات الشاقة كتابه الأهم (معجم معالم الحجاز) بأجزائه العشرة ، بالإضافة إلى مصنفات أخرى كثيرة منها «معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ، بين مكة واليمن ، على طريق الهجرة، قلب الحجاز، الرحلة النجدية، رحلات في بلاد العرب» . ولأنه أحب مكة كما لم يحبها أحدٌ من مجايليه فقد كتب لها ( معالم مكة التاريخية والأثرية، نشر الرياحين في تاريخ البلد الأمين ، فضائل مكة ) .. أما في الأدب فأخرج ( معجم الكلمات الأعجمية والغربية، الأدب الشعبي في الحجاز،أخبار الأمم المبادة في القرآن، أخلاق البدو، ) .. ناهيك عن مصنفاته في الأنساب (معجم قبائل الحجاز، القبائل العربية المتفقة اسماً والمختلفة دياراً) وغيرها الكثير . تميز رحمه الله بروحه المتواضعة والمحبة للآخرين، والمبادرة بتقديم المساعدة لكل من يطلبها ، حتى أن منزله ومكتبه في دار النشر التي يملكها كانا مفتوحين للجميع ، خصوصاً لطلاب العلم . في الأول من ربيع الأول عام 1431 توفي الشيخ الدكتور عاتق البلادي مخلفاً قصة نجاح ملهمة لراعي غنم بسيط ؛ وجمّال يتيم أصبح بعصاميته وكفاحه رمزاً ثقافياً خالداً أثرى المكتبة العربية بمراجع ستبقى شاهدة على فضله وعلمه وريادته الى أن يرث الله الأرض ومن عليها . [email protected]