كثيرة هي تلك الأيام التي تعبق بشذاها جنبات العمر، وتملأ بحكمتها رحابة العقل، وتجوّد بعطاياها التجربة الإنسانية، كثيرة هي تلك الأيام التي لا يمحوها حراك السنين ولا يطويها نسيان ولا غفلة، ومن تلك الأيام ما يعود إلى صبيحة يومٍ من أيام صيف 1986، ومع إشراقة شمسٍ سطعت، فلم تزل أنوارها ساطعةً في وجداني، ذلك حين تلقيت اتصالاً هاتفياً من العلامة الدكتور محمد أسد ( Leopold ZEISS)، الباحث الإسلامي المعروف، حيث أبدى رغبته بزيارة الإنسان الذي أحبه كلُّ من عرفه من سكَّان شاطئ الشمس وزوَّارِه، يريد السلام عليه، وتهنئتَه بطيب القدوم الى ماربيا، وعلى التو قمت بتبليغ رغبته، وجاء الجواب من غير ترددٍ أو توانٍ: أنَّ العلماء يجب أنّ يُسعى إليهم، وطلب مني الاتصال بالدكتور محمد أسد، وتنسيق موعدٍ معه لزيارته في صومعته التي اختارها طواعيةً للتأمل والتفكر، بقرية على جبل ميخاس الذي يُشرف على مدينة فوينخيرولا ( سهيل سابقاً) - مولد الإمام السهيلي صاحب الروض الأنف - وفعلاً تمَّ التواصل مع الدكتور محمد أسد، وتحدد موعد مناسب، وتوجهنا معاً لزيارة الدكتور محمد أسد، لم يكن لقاءً عادياً، فما أكثر الزيارات التي نرافق فيها أشخاصاً ذوي قيمة وقدر، وَلَكِنْ عندما تسعد بصحبة رجل تتمثل فيه أخلاق الفروسية ومبادئ الإنسانية وآداب الإسلام، فأنت محظوظ الصحبة. وكان لقاء شامخاً؛ لقاء تجلى فيه رائعة من رائعات برتوكول أفضل ما سطَّره التاريخ من احترام العلماء، لم يكن هذا مع محمد أسد كواحدٍ من علماء المسلمين فحسب، بل كذلك كواحد ممن له تاريخ حافل مع الوالد الملك المؤسس، وما كان يحظى به من تقدير واحترام، فصاحب الدَّار هو من ذاع صيته، وعمَّ خبرُ إسلامه، وعُرف عنه إتقانه اللغة العربية بكافة لهجاتها الإقليمية، إضافة للغات العالمية والآسيوية، قدم من مسقط راْسه في النمسا إلى غرب ووسط آسيا كمراسل لصحيفة فرانكفورتر زايتونج، لرصد تحركات الإنجليز إبان مرض الإمبراطورية العثمانية - وكان واحداً ممن توقع سقوطها-، وهناك ربطته صداقةٌ مع نائب الملك في الحجاز وكان يومئذٍ صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز، ما لبثت هذه العلاقة أن مدّت بظلِّها الوارف ليصحب والده المغفور له جلالة الملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه. وقد كان من حسن تلطف الضيف مع مضيفه، أنه صحب معه كتابه المشهور « الطريق إلى مكة»، وهو السيرة الذاتية للعلامة محمد أسد، وأخذ يقلب صفحاته؛ صفحةً وراءَ صفحة، حتى وصل إلى ما رواه الدكتور محمد أسد عن المملكة وهي في طور التأسيس، ولقاءاته المتعددة مع جلالة الملك عبد العزيز، ومع صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز، وما أورده عن المهمات التي كُلِّف بها، وهكذا يضرب الضيف الكريم مثلاً رائقاً في صنع البرتوكول الإنساني، فكان منه جميل التهيؤ لزيارة رجل له سبق صلة من فضل وبر مع المملكة ومؤسسيها.. وكان لقاء سعدتُ به، لا لشموخه فحسب، بل لغير واحد من الأمر؛ بساطته مع روعته، تواضعه مع حكمته، عمق فكرته ووضوح رؤيته، وهكذا صحبة رجل بعلمه وثقافته كأنها تعيد النفس إلى الحياة بما تكسبه من معرفة وتجربة.