تصطف السيارات عند إشارة المرور الحمراء وينتظر الجميع اللون الأصفر ثم اللون الأخضر لينطلقوا فإذا بأحدهم يأتي من خلف كل السيارات بطريقة عنترية ليتجاوز الجميع صلفاً وغروراً ولا يحلو له إلا أن يكون الأول حتى لو كان مخالفاً وضحكة صفراء تعلو وجهه وكأنه أتى بما لم تستطعه الأوائل . وهناك في السوق المجاور يقف مجموعة من المتسوقين أمام المحاسب ليحاسب كلٌ منهم عما اشتراه وفجأة يظهر أحدهم من آخر الطابور ليقفز بمنتهى اللامبالاة أمام من سبقه ويدس نفسه أمام المحاسب غير آبهٍ بمشاعر الآخرين ودورهم في الطابور قبله ، وربما مر الموضوع بسلام وإلا تحول إلى معركة تتطاير فيها الغتر والعقل وتختلط فيها الأرجل والأيدي بين المتسوقين . وليس ببعيد من هذين المشهدين تطالعنا كاميرا الواقع بمشهد مركز ٍصحيٍ حيث يجلس مجموعة من المرضى ينتظرون دورهم في الدخول على الطبيب المعالج وإذا بشخص يأتي متأخراً ويتجادل مع الممرضة بكل استهتار راغباً في الدخول على الطبيب قبل الآخرين متناسياً أسبقيتهم متجاهلاً دورهم في الانتظار . وبعيداً عن تلك المشاهد اليومية ، وقبل يومين كنتَ أنتَ شخصياً في رحلة جوية داخلية وبعد أن صعد جميع الركاب إلى الطائرة تأخر إقلاعها أكثر من خمس وأربعين دقيقة لأن هذا الراكب أخذ مقعد ذاك الراكب المخصص له وثالث جلس غير مبالٍ بمقعد رابع خُصص له غير مكترث بما يسبب ذلك من خلافات تجعل المضيفين في حيرة لإصلاح ذات البين بين ركاب لم يلتزموا بما خصص لهم من مقاعد ضاربين عرض الحائط بالنظام ومصالح الآخرين . وعودة لمشاهدنا الأولى هذا شخص يقود سيارته بهستيريا في طريق سريع متجاوزاً السرعة المقررة بجنون ثم يصب جام غضبه على ساهر لو ( صادته ) الكاميرا ، أما ذاك فيدلف بسيارته إلى مواقف عمومية أمام إدارة عامة ولكنه يقف بكل استهتار في موقف مخصص لذوي الاحتياجات الخاصة ويترك سيارته وينزل منها سائراً كالطاووس وكأنه حقق جائزة نوبل غير آبهٍ بمواطن من ذوي الاحتياج يأتي ويحار أن يقف بعد أن استولى ذاك على موقفه المخصص بذوق بارد . وعلى مقربة هناك ماكينة صرف آلي لأحد البنوك يقف أمامها عدة أشخاص ليسحبوا من حساباتهم مبالغ نقدية حسب احتياجاتهم وفجأة تظهر امرأة من آخر الشارع تقتحم الصف وتذهب إلى الماكينة مباشرة لا تعرف في قاموسها للنظام معنى ولا تقديراً للذوق العام مستغلة أنها امرأة ولن يكلمها أحد. ويقرب المقال من المساحة المخصصة له ويسدل الستار على مشاهد متناثرة هنا وهناك لكنها تواجهنا ليل نهار في حياتنا اليومية لدرجة مزعجة ومنفرة وغير حضارية ومع الأسف تعوّد عليها وأخذ يمارسها حتى المقيمون بيننا ولم تقتصر على المواطنين فقط، مشاهد تجعل الكثير من الأسئلة تتقافز أمام أعيننا :- هل نحن مجتمع عصيّ على التحضر والالتزام بالنظم التي تنظم حياتنا المعيشية اليومية ، مجتمع ينفر بعض أفراده من النظام ويحب القفز عليه ، هل الطابور أو ( السرا ) يسبب لنا حساسية مفرطة لا يطيقها البعض ، هل البعض يرى نفسه فوق النظام وينفر منه أو أن على رأسه ريشة أو ولد وفي فمه ملعقة من ذهب تجعله مقدماً على الآخرين . لذلك يجب علينا أن نضع العواطف جانباً، ونخلع رداء الوهم وانطباع المثالية والنرجسية الذي سببته الطفرة الاقتصادية حتى يستطيع المجتمع أن يرى بوضوح ويتمكن من قراءة الحاضر والمستقبل بفهم ووعي للواقع المعاش، وحتى نعترف بسلبيات يومية نراها في مجتمعنا ونشرع في تصحيحها وتحصين المجتمع ضد تلك السلبيات وتحدياتها. ولعل الطفرة الاقتصادية وما صاحبها من تطور صناعي وعمراني وغيرها، أحدثت فجوة كانت نتيجتها عدم مواكبتها لوعي ثقافي يُنشط قيمنا الأخلاقية والاجتماعية، فتلك المشاهد والظواهر السلبية في مجتمعنا تجعلنا نكتب ونكتب لنتحسس حاجاته ونتعرف عليها ونتلمسها ونبحث عن أساليب علاجها فيما بيننا وإيصالها لمن يهمهم الأمر حتى نتعاون جميعاً في التخلص من هذه السلبيات المتفشية في مجتمعنا، فكم نحن بحاجة لحملة لتصحيح الذوق العام، كما أن شبابنا بحاجة إلى أساليب توعية منهم وإليهم وأقرب لأنفسهم وأكثر تأثيراً، وإيجاد طرق بديلة تتوافق مع فكرهم حتى يستطيعوا التمييز بين الصواب والخطأ، فطبيعة الإنسان ليست معصومة عن الخطأ، ويجب تقديم التوعية والنصيحة بحيث تكون مستوفية لجميع أضرار ذلك السلوك ونهاية ذلك الطريق حتى يدرك أنه وصل لمرحلة إدراك الجانب السلبي لتلك الممارسة، وهذا ما يشعرهم بأنّهم جزء فعال وركيزة أساسية في بناء هذا المجتمع وتحضره. [email protected]