يتعثّر المرء -خلال حياته- كثيرًا، ويعتريه الكثير من الاضطرابات، وقد يُعاني نتيجة ما يتورّط فيه من أخطاء، وانفعالات مضطرمة حمقاء. وأفضل ما يصنع أن ينفض يديه ممّا حدث، وينهض من كبوة لا تضرّه قدر ما يضرّه بقاؤه على حاله فيها، وألاّ يدع مجالاً لينتقل من حال سيئة إلى أسوأ، ومن ظلال قاتمة إلى ظلمات متراكمة. فلا أحد يختار أن يُصاب بقارعة، لكنه يملك الاختيار في الاستمرار في أهوالها وخسائرها، أو الابتعاد في أسرع وقت. بيد أن بعض الناس ينجرف مع تيار مشاعر الغيظ والألم، فيزيد خسائره أضعافًا. وأذكر هنا قصة الفيلسوف الروسي الكبير (تولستوي) وخصامه مع زوجته، الذي جعل خسائره أكبر من أرباحه. وهو الكاتب والأديب الذي عُرف دومًا بأنه كان أخلق رجال العالم بالتقدير والاحترام. كانت كل كلمة تخرج من فمه تدوّن في الصحائف، وكان إقبال الناس على مجلسه ومنطقه عظيمًا. وكان الناس يلتفّون حوله ليسعدوا بطلّته، ويشنّفوا آذانهم بعذب حديثه وصوته. هذا ما كان عليه من هيبة ووقار في حياته العامة، بينما كان في حياته الخاصة أحمق!. فقد تزوّج من فتاة أحبّها، وسعد معها في حياته، لكن غيرة هذه الزوجة أتعسته، وأحالت حياته جحيمًا. فماذا فعل تولستوي ردًّا على ذلك؟. أنشأ يكتب مذكرات يلوم فيها تلك الزوجة، ويتّهمها بأنها سبب شقائه، راغبًا في أن ينصفه الناس والأجيال القادمة، ويصبّوا اللّوم على الزوجة التي ردّت على كيده بكيد أبشع، إذ مزّقت جانبًا من المذكّرات وأحرقته، ثم شرعت تكتب مذكرات ترّد على زوجها، وتكيل له الصاع صاعين!! وقد أراد كل منهما أن يجد الإنصاف من الناس!! وأحالت هذه الرغبة منزل هذين الزوجين مشاعًا، لا حرمة له، ولا جدران تحمي أسراره وخصوصيته. وجعلا نفسيهما وحياتهما مسرحًا يتفرّج الآخرون على ما يجري عليه دون مقابل، كل ذلك بحثًا عن الإنصاف من الناس، والسخط على الطرف الآخر. السؤال الذي يفرض نفسه: هل هناك مَن يهتم فعلاً؟. هل كان مهمًّا لنا وللجمهور الآخر أن نحدّد مَن هو المُصيب، ومَن منهما المخطئ؟ كثيرون يفعلون مثلما فعل تولستوي وزوجته. وينسون أن للناس حياتهم التي تشغلهم، وشؤونهم التي تستحق الاهتمام أكثر من أن تضيع في شكوى فلان أو علاّن. كثيرون يسرفون في التذمّر والشكوى من حياتهم دون أن يكلّفوا أنفسهم مشقة إيجاد حلّ حقيقيّ لمشكلاتهم، وإن أنت قدّمت الحلّ والنصيحة، لا يستجيبون، لأنهم لا يريدون حلاً. إنهم ببساطة استعذبوا الشكوى. وأعجبهم نظر الآخرين إليهم كمشاهدين وجمهور. ولو علم هؤلاء أن الناس قد يرمقون أعمالهم ومتاعبهم ليعلّقوا عليها سخرية واستهجانًا، أو شفقة واعتبارًا.. ثم ما يلبثون أن ينشغلوا في حياتهم ومطالبهم ومآربهم. ولا يدفع الثمن الفادح إلاّ مَن جعل حياته مسرحًا مشاعًا ينظر إليه الجميع.. بل هو أدنى من ذلك، فالمسرح مدفوع ثمن مشاهدة العرض الذي عليه. أمّا حياتهم فهي عرض غير مدفوع الثمن، إلاّ من عارضيه، وليس من مشاهديه!!. [email protected]