في شكل عام لم يكن الكاتب الروسي الكبير ليون تولستوي كاتباً مسرحياً. بل كان من الصعب على أي كان أن يتصور «فيلسوف الأدب الروسي وأديب فلاسفته» خائضاً غمار اللعبة المسرحية، هو الذي كان له من الأعمال الروائية والقصصية وكتب المذكرات والنصوص الفكرية ما يجعله في غير حاجة إلى المسرح وأهل المسرح كي يقدموا أفكاره إلى الجمهور. ومع هذا، في فترات متقطعة ومتباعدة من حياته، كتب تولستوي للمسرح، كما أن مسرحياته القليلة التي كتبها خلال حياته مثلت بنجاح وأقبل الجمهور العريض عليها. وينطبق هذا الكلام، بشكل واضح على مسرحيات كتبها صاحب «الحرب والسلام» و «القوزاق» في خريف العمر، ليتلقفها خاصة قسطنطين ستانسلافسكي، صاحب «المنهج» فيخرجها بأشكال مبتكرة ويقدمها إلى الجمهور متوقعاً من الكاتب أن يسكره النجاح فيقرر مواصلة الكتابة للخشبة. لكن تولستوي كان سرعان ما يتكاسل مبتعداً فيتشوق الجمهور وأهل المسرح إلى مزيد من الأعمال منه. فهل لنا أن نستخلص من هذا أن كتابة تولستوي للمسرح، كانت أشبه بنزوة عابرة؟ ربما. لكن هذه النزوة كانت منتجة لنا ودائماً ما كانت تثير الإعجاب. بل يمكن القول أيضاً إن واحدة على الأقل من تلك المسرحيات القليلة، كانت ذات بعد سياسي واضح ومناضل وفعال. ومن هنا نراها لم تقدم أول الأمر إلا على شكل «حدث مسرحي عائلي» مع أن ستانسلافسكي قام بإخراجها - بشكل مبتكر طبعاً – مستخدماً في تقديمها أفراداً من عائلته ومن عائلة تولستوي نفسها، مكتفياً في المرة الأولى، بجمهور من الأهل والأصدقاء. وهذه المسرحية هي «ثمار التنوير» التي كان مراد تولستوي من كتابتها وتقديمها السخرية من بقايا السلوك المعادي للتنوير في مجال تعامل أرستقراطية أصحاب الأراضي الروس، مع الفلاحين، في زمن كان يبدو ظاهرياً، أن التنوير يسود تلك الطبقة «المتأوربة». كانت هذه المسرحية أشبه بمرآة نصبها تولستوي/ ستانسلافسكي أمام مجتمع يدّعي التحضر، في سخرية هائلة. والأدهى من هذا أن تولستوي حين كتب المسرحية في شكلها الأول الذي قدمت فيه، عائلياً، سمى الشخصيات بأسماء معروفة لأناس حقيقيين من مدينة تولا، غير البعيدة من عزبته في يوسنايا بوليانا، ما أثار مشكلات أدت إلى تبديل أسماء الأشخاص والأماكن في العروض التالية. ولكن إذا كانت «ثمار التنوير» مشروعاً سياسياً إيديولوجياً ساخراً، يكاد ينتمي إلى ما كان يسمى ب «مسرح الحقيقة التوثيقي»، فإن عملاً آخر لتولستوي كتب أيضاً للمسرح بعد «ثمار التنوير» (1889) بأكثر من عشر سنوات، أي في عام 1900 تحديداً، وعنوانه «الجثة الحية»، أتى يومها أكثر مسرحية بكثير، وأكثر تسلية وقد اتسم بمزيد من الهزل والرومانسية مع نهاية مفجعة ومفاجئة من النوع الذي كان تقليدياً في ذلك الحين. ولئن كانت مسرحية «الجثة الحية» كما كتبها تولستوي وقد قارب السبعين من عمره، تقليدية ترفيهية إلى حد كبير، فإن إخراج ستانسلافسكي لها ضمن إطار عروض «مسرح الفن» في موسكو (1911) أعطاها أبعاداً شديدة الخصوصية، كانت هي ما أمن لها نجاحها الذي كان كبيراً منذ العرض الأول. وكذلك فإن غرابة الموضوع وظرافته إلى تأرجحه بين القسوة والمرح، أمن لهذا العمل ديمومة جعلته يترجم إلى عدد كبير جداً من اللغات. ولعل في إمكاننا أن نقول هنا إن سمعة المسرحية بشقيها الكتابي والإخراجي، كانت في خلفية تحويلها من مسرحية إلى فيلم سينمائي نحو ثماني مرات، وبين العام 1911 الذي قدمت فيه للمرة الأولى في فيلم صامت، والعام 1986 الذي حولته فيه إلى فيلم ناطق. والحال أن «الجثة الحية» قدمت ثلاث مرات في السينما الصامتة وما بين 4 و5 مرات في السينما الناطقة. وكانت في كل مرة تنال نجاحاً يفوق سابقه. وهذه حقيقة حتى وإن كان في وسع المرء أن يتساءل هنا عن سر هذا النجاح لنص لعل أول وصف ينطبق عليه هو أنه ميلودرامي يتسم في بعض لحظاته بسذاجة غير تولستية على الإطلاق! يدور موضوع هذه المسرحية حول المدعو بروتازوف، الذي يقدم إلينا منذ البداية زوجاً قلقاً معذباً يعيش مأساة اعتقاده بأنه حتى وإن كان قد تزوج من حبيبته الحسناء ليزا، فإن هذه الأخيرة لم تنجز اختيارها بعد بينه وبين منافس له كان قد تقدم لخطبتها لكنه لم يوفق في نيل يدها وهو المدعو فكتور كارنين، ولأن بروتازوف لم يصل إلى طمأنينة نهائية بصدد عواطف زوجته تجاهه على رغم كل الحنان الذي تبديه نحوه، يقرر أن ينتحر للتخلص من هواجسه، بيد أنه لا يتمكن من ذلك لأنه لم يقو عليه، فيكتفي بدلاً من ذلك بالهرب من بيته تاركاً أهله وزوجته يعتقدون أنه قد مات، لكنه في الحقيقة يكون قد توجه للعيش مع جماعة من الغجر، حيث سرعان ما يجد نفسه على علاقة مع الحسناء ماشا، المغنية الغجرية، بيد أنه إذ يحاول أن يحول علاقته مع ماشا من مجرد علاقة عابرة، إلى ارتباط رسمي يجابه برفض أهل ماشا له.. فلا يجد أمامه هذه المرة، أيضاً، إلا أن يهرب من حياته الثانية هذه. ومرة أخرى نجده الآن وقد قرر من جديد أن يضع حداً لحياته بالانتحار بيد أنه هذه المرة أيضاً يجبن ولا يقدم.. ويهرب وقد ازدادت حدة انهياره. في تلك الأثناء، وإذ تكون كل الدلائل قد أشارت إلى أن بروتازوف قد مات، لا تجد زوجته ليزا، مفراً من أن تستجيب لتوسلات الرجل الآخر، فكتور، لها فتقترن به.. ولكن حين يصلان إلى اكتشاف أن بروتازوف لم يمت، بل هو على قيد الحياة، وتحاكم ليزا بتهمة تعدد الأزواج وتتهم تحديداً بأنها هي التي كانت قد دبرت اختفاء زوجها الأول كي تقترن بالثاني. وهنا إذ ينتشر نبأ التهمة، يسارع بروتازوف إلى الظهور في قاعة المحكمة ليشهد على أن اختفاءه كان تلقائياً، وأن ليزا لم تكن لديها أية طريقة لمعرفة أنه كان على قيد الحياة. ومن هنا، يقول بروتازوف أن ليزا بريئة من التهم التي توجه إليها، وهنا إذ يقرر القاضي في نهاية الأمر أنه، ومهما كان الوضع، فإن على ليزا أن تختار بين أن تتخلى عن زوجها الثاني، وأن تساق إلى المنفى في سيبيريا، يفاجئ بروتازوف الجميع بإقدامه هذه المرة على الانتحار، بإطلاق رصاصة على نفسه، لأنه أجبن من أن يصغي إلى القرار الذي سوف تتخذه ليزا، فهو إذ كان منذ البداية قلقاً لأن ليزا لم تتخذ قراراً نهائياً بينه وبين فكتور، ليس قادراً الآن على سماع مثل هذا القرار بشكل واضح وصريح، والحقيقة أن سوء حظ بروتازوف كان له بالمرصاد هذه المرة أيضاً، ذلك أن ليزا، إذ وجدته صريعاً أمامها راحت تصرخ بشكل هستيري أنها تحبه، بل أنها لم تحب أي شخص آخر في حياتها! هذه هي أحداث المسرحية الطريفة التي كتبها تولستوي قبل سنوات قليلة من رحيله، وعلى رغم أن جوهر هذه المسرحية قد شغل النقاد والباحثين كثيراً، وهم يحاولون أن يربطوا بينها وبين أدب تولستوي ككل، فإنه من الواضح أن في المسرحية «موضوعة» أساسية واضحة تدور من حول التردد والعواطف المكبوتة. ما يجعل جزءاً أساسياً من النص، أشبه بدراسة سيكولوجية لشخصية بروتازوف في تقلباتها وترددها وجبنها، ثم أخيراً في الخطأ القاتل الذي يرتكبه بروتازوف في لحظة النهاية، حيث لأنه عاجز عن سماع الحقيقة يضع حداً لحياته متجاوزاً كل ضروب جبنه أمام الموت ليجبن أمام هذه الحقيقة. ولعل تولستوي بهذا الرسم النفسي لشخصية بروتازوف عبر عن طبقة بأسرها من الناس، بل عن إنسان القرن العشرين كما سوف يرسمه كافكا لاحقاً. [email protected]