رائد تربوي كبير فقدته بلادنا بالأمس القريب.. معلم قدير غادر حياتنا الفانية تاركاً لنا إرثاً قِيميّاً؛وسيرة حافلة بالإنجاز.. غادرنا بزهو؛بفرح وهو يرى طلابه يُزيّنون حياتنا بحيويّتهم وتفاعلهم وإنتاجهم.. غادرنا حامداً شاكراً لله وهو يرى طلابه يساهمون في صنّاعة حاضر ومستقبل بلادنا.. غادرنا بنفس راضية بعد أن أدى رسالته كاملة غير منقوصة.. غادرنا هذا التّربوي المحنّك بعد أن صنع لنفسه مجداً من رحم المعاناة.. غادرنا بعد أن حوّل طعم الحرمان الذي ذاق مرارته..الى مذاق حلو الطّعم.. لقد فتح هذا الرائد عينيه على الدّنيا بغصّة في حلقه..عاش ألم الفراق واليُتم في المهد.. لم يمرّ كغيره بمرحلة الطفولة..لقد ولد رجلاً..وبعبارة أدقّ ولد بمسؤوليّات رجل.. معاناته كوّنت عنده روح التّحدي..تحوّل ضعفه الى قوّة..وحرمانه الى مقاومة..صبر وكافح..شقّ طريقهُ بتمكّن وثبات.. كان كأنّما في يده مفتاح للمغاليق أمامه..سرّع طموحه بخطاه.. كان قائده ومرشده.. تحوّل الفتى اليتيم النّحيل الذي يتحلّى بعيني صقر الى بركان هادر؛قاده نبوغه وألمعيّته الى جهد متواصل؛ومثابرة لاتعرف الكسل؛ وطموح لايُعرف له حدود.. "طاهر" قصّة تروى وحكاية تذكر ؛عندما يُذكر اسمه اليوم في مجتمع المربين وتحديداً في محافظة الطائف يتبادر للذّهن فنّ القيادة التّربوية بكل شموخها وتألقها؛بشخصيّتها المتوهّجة؛باستقلاليّتها المنضبطة؛بحكمتها؛بقوّة ارادتها؛بحزمها؛بهيبتها؛برونقها الجميل.. الرّاحل "طاهر بن مرزوق الزايدي " (1360-1435)-رحمه الله رحمة الأبرار- شخصيّة تربويّة فذّة سبقت عصرها؛كان طاقة إبداعية متجدّدة على مدى حياته الوظيفيّة والمهنيّة التّي بدأها من أول السّلم الوظيفي؛بمشوار تميز بقدرته على المزاوجة فيه بين العلم والعمل؛بين التّحصيل الدّراسي ورعاية أسرة ممتدة.. مدرسة اليمانيّة الإبتدائية بالطائف كانت محطّته الأولى التّي بدأ فيها مشواره الحافل موظفاً صغيراّ لاتتعدّى مسؤوليّاته بها متابعة غياب وحضور التّلاميذ يذرع الشّوارع كل صباح مشياً على الأقدام لإشعار أولياء أمورهم بغيابهم أو بوضعهم الدّراسي .. كان الفتى الألمعي ينظر الى هذه الوظيفة من منظور الحفاوة بهؤلاء الأباء والأبناء واضعاً المثل الشعبي الذّي كان يسمعه في القرية -سيّد القوم خادمهم- نصب عينيه مستثمراً الوجود النّوعي للثقافات في المدرسة العريقة بقيادة مديرها المربّي الكبير عبدالرّحمن المسفر في بناء شخصيّته وإيقاد جذوة طموحه الذي تعدّى ذلك بكثير.. كانت عينا الصّقر في داخله تحلم بكرسي القيادة في المدرسة مثل شيخه المسفر فانتهى به الأمر بعد عمل شاق الى ما أراد.. نعم.. أصبح قائداً تربوياّ يُضرب به المثل..يتواصى التّربويون باستنساخ تجربته.. مدرسة الحسن بن الهيثم الإبتدائية كانت بيته الثّاني الذّي أسسه بنفسه بأمر خاص من وزير المعارف الشّيخ حسن آلِ الشيّخ-رحمه الله -الذي لاحظ في شخصيّتة مواصفات القائد التّربوي فقدّر له نبوغه وأمر بتسليمه قيادة المدرسة الحديثة.. أصبحت مدرسته الجديدة كل شئ في حياته؛قضى فيها زهرة شبابه؛حوّلها على مدى (31) سنة وهو قائد لها الى منتدى للتربويّين؛بل الى منتدى للمدينة؛ صنع منها صرحاً علمياً له هيبته؛ له وقاره؛ له انضباطيّته؛اتّخذ الصّرح العلمي "الجديّة والمهنيّة" شعاراً؛الطالب؛المعلم؛ ولي الأمر شركاء فيه ؛كلّهم مسؤولون بالتّضامن عن إذكاء روح التّفوق والإبداع عند الّتلاميذ؛الكل يبادر؛يقترح؛يضيف؛الأمر شورى؛ المشاركة في البناء داخله تتم بنسق متكامل بين الجميع ؛القائد يراقب؛يوجّه؛يفرح؛يثور كالبركان على كل نقيصة تمسّ الكيان؛أضاف الأستاذ فيما بعد لشعار الجديّة والمهنيّة - الذي التزم به الجميع - و"لامكان للخاملين" كانت مدرسة الحسن مؤسسة جاذبة؛كل جاداً يتمنّى أن يرتبط إسمه بها؛كان القائد يحمى الجميع؛يعزّز شخصيّات منتسبي مؤسّسته؛يبث فيهم روح الّتنافس والتّجديد؛ مناشط المدرسة وبرامجها كانت المحكّ للتّنافس لتتبيّن للقائد الفروق الفرديةّ حتى يُطوّر ويُعدّل ويُوجّه..رُوح الأداء والالتزام بالقيم في المدرسة كانت تعكس بكل مكوّناتها فكر وشخصيّة القائد النموذج الذي جمع في شخصيّته بين روح الأب والمعلم والموجّه مما منحه بإمتياز مرتبة التّقدير والحبّ غير المزيّف من طلابه وزملائه وشركائه.. لم تكن مدرسة الحسن بن الهيثم مدرسة نمطيّة بل كانت مركز حوار؛ومؤسّسة اجتماعيّة رائدة جاءت بفكر جديد أكسبها زخماً مجتمعياً ورسمياً مما جعل تجربتها تمتدُّ الى مؤسّسات تربويّة أخرى في مجال التّجويد والإتقان والتّمكين في برامجها الإبداعيّة الموجّهة للصفوف الأولى..العمل بها يمتد الى ساعة متأخرة من الليل موزّعة وقتها بين التّعليم الصّباحي والّليلي وبرامج النّشاط وكان الأستاذ أول من يصل الى المدرسة وأخر من يغادرها ومن ملحه كان يقول:لمن لا يعرف منزله الملاصق للمدرسة - منذ أن عُينت في المدرسة آتي اليها وأعود لمنزلي مشياً على الأقدام- في ظل تنامي ثقل الأستاذ الإداري - والأستاذ الّلقب الذّي كان ينعت به - كان في الجانب الأخر تململ عند الإدارة المركزية كون الأستاذ أصبح يقود خطاً أكثر تحرراً من ربقة بيروقراطية هذه الإدارة التي تمسك بكل مفاتيح التّفكير في تطوير العمليّة التّعليميّة؛الاّ أنّ نجاحاته كانت تمدّه بالدّعم في مجتمع المدينة المدرسي إضافة للزّخم الأدبيّ الذي أكسب المدرسة ثقة مجتمعها لتصبح مركز الحيّ الذّي تناقش فيه الظّواهر المجتمعيّة؛وإصلاح ذات البين.. بعد تقاعده في عام 1416 زاد عطاء الفقيد وتعددّت مساهماته فكان الحاضر دائماً لقضاء حوائج المحتاجين..بوجاهته تُحل أكثر المشاكل تعقيداً؛لايتصدى لأمر الا أنجزه؛ولا لمعضل إلا إبتكر له حلاً.. ولا لمشروع إلاساهم فيه بفكره أوماله أوجاهه أو بها مجتمعة إنّه التّوفيق فحسب.. لقد أخلص فقيد التربويّين ماوسعه الجهد لرسالته؛ولمجتمعه؛ولولي أمره ؛كان من مفاتيح الخير وسادة المجتمع ورموزه ؛لم يبخل يوماً بجاه أو مال على أحد.. كان أخي ومعلمي الأستاذ طاهر الزايدي نموذجاً فريداً وسيرة عطرة لجيل العصاميّين الذّين لم تثنهم مصاعب الحياة عن بناء ذاوتهم ومجتمعاتهم ؛ الذّين تحلّوا بإرادة لاتعرف الخنوع وقوّة لاتستسلم للتحديات والمصاعب؛الذّين حوّلوا مزارع الشّوك في طريقهم الى حدائق غناء؛الذّين عرفوا مرارة المعاناة فمدوا أيديهم بالخير والعطف والحنان لأصحاب الحاجات..إنّهم جيل التّحدي والبناء..جيل النّخوة والمروءة..جيل القيم النّبيلة.. والنّفوس الكبيرة.. أولئك آبائي فجئني بمثلهم .. إذا جمعتنا ياجريرُ المجامعُ وبعد.. إنّ للرّائد طاهر الزّايدي علينا حقّ الحفاوة بتاريخه؛بإنجازاته؛بتخليد إسمه وإطلاقه على واحدة من مدارس التعليم العام؛وإقامة ندوة علمية يتحدّث فيها مجالسوه عن سيرته ومسيرته؛مقترحان نقدّمهما للإدارة العامة للتّربية والتّعليم وللنّادي الأدبي بمحافظة الطائف. ونحن أمام هذه الخسارة الفادحة لانملك الاّ أن نقول كما قال المصطفى عليه أفضل الصّلاة وأجل التّسليم: إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن وإناّ على فراقك لمحزونون..نسأل الله لفقيدنا الحبيب طاهر بن مرزوق الزّايدي مقعد صدق في الفردوس الأعلى من الجنّة مع النّبيين والصّديقين والشّهداء وأن يعوّضنا فيه خير العوض إنّه سميع مجيب . سليمان عواض الزايدي- مكة المكرمة