عندما كان زين العابدين الركابي يتحدث، كان الهدوء والصمت يحفّان بمجلسه، ليس فقط لأن الصوت الخافت للركابي كان يكاد لا يُسمع، ولكن لأن عباراته الرصينة، وفكره النيّر، وذوقه الرفيع في اختيار الكلمات، كل ذلك كان يدفع بمجالسيه أن ينصتوا إليه، وأن يستزيدوا من حديثه، وهو في سيرته تلك كان أشبه ما يكون بصهره الأستاذ الكبير محمد صلاح الدين -يرحمهما الله-. كلاهما كان عنوانًا للسماحة والاعتدال، وكلاهما كان يدعو للوسطية، ويرفض التطرّف أيًّا كان مصدره، تطرف الغلاة في الدين، وتطرف دعاة الليبرالية الفجّة، وكلاهما كان مثالاً للأدب الجم والخلق الرفيع، لم يُعرف عن أحدهما التلفظ بكلمة سوء، حتى في حق مخالفيهما الذين كان بعضهم يتجاوز حدود اللياقة والاختلاف الفكري في حواره مع أي منهما. في أثناء حرب تحرير الكويت، وما سبقها من أحداث، وما صاحبها من انحياز بعض الفئات الدينية إلى صف الاعتداء على الكويت، وتهديد المملكة العربية السعودية، كان الركابي واضحًا في موقفه، صريحًا في عباراته، نقيًّا في فكره، صارمًا في رفض مبررات الغزو، ثم في رفض الاحتجاج على الاستعانة بالقوات الأجنبية، مبتعدًا في حواره وأحاديثه عن الغوغائية والمزايدات، ومتمسكًا بمنهج الإسلام الحنيف بالمجادلة بالتي هي أحسن. كان الركابي أستاذًا للإعلام، وكان يمارس أستاذيته، وعلمه الواسع في مقالاته الصحفية التي اتّسمت دائمًا بجزالة السبك، وأناقة الصياغة، ووضوح الهدف والرؤية، وكانت بذلك نموذجًا يُحتذى به، يبدأ بطرح الخلفية العامة، ثم ينتقل لتحليل العوامل المؤثرة ومنها يستنتج النتائج ويوصل الرسالة إلى متلقيها. كانت تجمعني بالأستاذ الركابي جلسة شهرية عادة ما تكون في ضيافة أخي عبدالإله المؤيد -يرحمه الله- مع نخبة صغيرة من الأصدقاء، وكان الفكر والأدب وشؤون الساعة هو محور أحاديثنا، كان يحرص على أن يستمع مني إلى ما يسمّيه المنظار الدولي للأحداث ومفاهيمها، وكنت أتطلّع بشوق إلى أن أستمع منه إلى المنظار التأصيلي والتحليل الواقعي، والخلفية التاريخية للتيارات الفكرية والسياسية في الساحة، وكان أخونا عبدالإله أكثر ما يكون طربًا إذا احتدم النقاش، وتباينت الآراء، فيتولى بمهارته الفكرية واللغوية استخلاص النتائج، وتوضيح معالم المساحة المشتركة بين أفكارنا وهي عريضة -ولله الحمد والمنّة-. بعد سنوات قليلة من رحيل الأستاذ محمد صلاح الدين، وبعد بضعة أشهر من رحيل الدكتور عبدالإله المؤيد، تعود يد المنون لتختطف منا بشكل مفاجئ زين العابدين الركابي، الرجل الهامس الذي يعلو همسه على دوي الرعد.. رحمه الله، وأكرمه بفسيح جناته، وجزاه عن الوطن وعن الإسلام خير الجزاء، وألهمنا وأهله وذويه الصبر والسلوان.. (إنا لله وإنا إليه راجعون)!! [email protected]