الأمن الفكريُّ أمرٌ من الأهميَّةِ بمكان في حياة الأفراد والمجتمعات، ولن نجد أُمَّة من الأُمم تنعم باستقرارها وأمنها، ونبوغ أبنائها، وبناءِ أوطانها، وتحقيق تطلعاتها وآمالها نحو غدٍ مشرق إلَّا إذا توافرت عناصر الأمن الفكري والاجتماعي والثَّقافي بما يتواكب مع الاستقرار الأمني والاجتماعي والسِّياسي والاقتصادي. وهذا أمرٌ يشكِّل تعزيزاً متكاملاً لأواصر الوحدة الوطنيَّة داخل المجتمع الواحد. وبالأمس القريب جاء «الأمر الملكي» الحكيم يحملُ قراءةً متأنِّيَّة للأحداث الجارية في الصِّراعات التي يشهدها العالم العربيُّ، وما يمكن تسميتُه باختراقِ الصُّفوف، والتَّركيز على شريحةٍ بعينها، وتسهيل خروجها خارج حدود الوطن لتقوم بأعمالٍ قتاليَّة، بل وإصدار الفتاوى لها بصحَّةِ ما تقومُ به، والتَّشجيع للفئات الأُخرى للحاق بها، وهذا جانبٌ أَوْغَلَ فيه المُحرِّضون وغَالُوا، واشْتَطُّوا في منهجهم دون تأمُّلٍ وتَدَبُّر في النُّصوص النَّقْلِيَّة والعَقْليَّة، ودون وقوفٍ على حقيقةٍ جوهريَّةٍ، وهي: مَتَى يَنْعَقِدُ الجِهَاد؟ أَلَيْسَ بِإذْنِ وِليِّ الأَمْرِ، فهو مَنْ يُنظِّم الأمرَ للجهادِ، ويَعُدُّ له عُدَّتَه، وفي هذا الجانب يقول العلَّامة محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - : «لا يَجُوزُ غَزْوُ الْجَيْشِ إِلَّا بِإِذْنِ الإِمَامِ مَهْمَا كَانَ الأَمْرُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْغَزْوِ وَالْجِهَادِ هُمْ وُلاةُ الأُمُورِ، وَلَيْسَ أَفْرَادَ النَّاسِ، فَأَفْرَادُ النَّاسِ تَبَعٌ لِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَلا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْزُوَ دُونَ إِذْنِ الإِمَامِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الدِّفَاعِ، وَإِذَا فَاجَأَهُمْ عَدُوٌ يَخَافُونَ بأسه وخطره فَحِينَئِذٍ لَهُمْ أَنْ يُدَافِعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِتَعَيُّنِ الْقِتَالِ إِذاً، وإِنَّمَا لم يَجُزْ ذلك - أي ما تقدَّم ذكره - لأَنَّ الأّمْرَ مَنُوطٌ بالإمام ؛ فالغَزْوُ بلا إذْنِه افْتِيات، وتَعَدٍّ على حدوده , ولأنَّه لو جاز للناس أن يغزوا بدون إِذْنِ الإمام ؛ لأَصْبَحَتِ المَسْأَلَةُ فَوْضَى , كُلُّ مَنْ شَاءَ رَكِبَ فَرَسَه وغزا , ولأنَّه لو مُكِّنَ النَّاسُ من ذَلكَ لَحَصَلَتْ مَفَاسِدُ عَظِيمة.. «يراجع» الشرح الممتع» (8/22) . ويتجلَّى هذا المعنى بشكلٍ موجزٍ في فَتْوى مجدِّدِ الدَّعوةِ في الجزيرةِ العربيَّةِ الشِّيخ محمد بن عبد الوهَّاب - رحمه الله - الذي قال بكل وضوح: «أَمْرُ الجِهَادِ مَوْكُولٌ إلى الإمَامِ، ويَلْزَمُ الرَّعيَّةَ طَاعَتَه فيما يراه». ولعلَّ من العجيب في هذا الزَّمن أنَّ كلَّ واحدٍ يريد أنْ يَتَصدَّر لفتوى المسلمين في دقائق الأُمور وأجلَّها عالماً كان أم جاهلاً، وبعض النَّاس - وخاصَّةً مِنْ فئةِ الشَّباب - لا يُبَالونَ مِمَّن يأخذون الفتوى - ولربَّما أخذوها ممَّن يجهل الأحكامَ الواضحةَ الصَّريحةَ فكيف بدقائقِ الأمورِ التي تترتَّبُ عليها المصالحُ العامَّة لمجتمعٍ بأكملهِ، بل ربَّما أخذَ بعضُهم فتواه من وسائلِ التَّواصل الاجتماعي المختلفة كالتّويتر والفيسبوك والواتساب، دون الرُّجوع إلى الأئمة الأعلام، وهيئة كبار العلماء الذين يُجْلُونَ مثل هذه الأمور، ويُميطون عنها كلَّ لَبْسٍ أو غُموض. ومِن القَصَص التي يَدْمِي لها الفؤادُ، وتَتَفَطَّرُ لها الأكبادُ أن يذهبَ شابَّان تربطَهما قرابةٌ إلى جَبَهَاتِ القتال في سوريا، فيجد أحدُهما نفسَه مع «جَبْهَةِ النُّصرة» والآخر يقف مع إمارة العراق والشَّام «دَاعِش»، وكُلٌّ يُوجِّه بُندقيَّته إلى الآخر!!! موقفٌ مُؤلمٌ، وصورةٌ تحملُ كلَّ ملامح الأسى، لأنَّ الأهداف النَّبيلة السَّامية لا تتحقَّق بهذه الصُّورة العشوائيَّة المرتجلة، التي ابتعدت عن طريق الجماعة، واتَّجهت إلى دروبٍ مُتَشعِّبةٍ وطُرُقٍ مُلتفَّةٍ، وأوديةٍ يَهِيمُ فيها ويضيع من لا يعرفُ خطوطَها الأصليَّة، ويقع فريسةً سهلةً للاستخبارات العالميَّة التي طَوَّقَتْ مثل تلك الأماكن التي انتشرت فيها الفوضى، وأصبحت محلَّ أطماعٍ سياسيَّةٍ إقليميَّةٍ وعالميَّةٍ، دون أن يدرك الكثير مِنْ مثل هذه الأخطار التي تواجه مَنْ يذهب إلى بؤر الصِّراعات وأماكن الحروب!!