حزينة أنا أبي! على أشياء كثيرة؟ أولها هو ذاك الشيء الذي هو «أنا» بعد رحيلك. بعدك أصبحت كل الأشياء صامتة حتى أمي! اعتنقت شريعة اللا حديث عامًا ثم رحلت! جاورتك في البقيع.. هل دارت بينكما أي أحاديث؟ وحدها الأشياء الصامتة أبي تخبرني أنك مازلت معي.. صورتك الممزقة الأطراف تقبع في محفظة كانت لأمي! تتبادل الصمت معها ومعي.. صورة رحلت ابتسامتها برحيلك ورحل الوقت معها في ساعة معصمي. فارق معك الحياة، ودون قبل رحيله حروف الفقد يتم في كتاب أناملي مرتين.. عبارة من مقطعين أقرأها من الجهتين.. بيتًا شعريًا من معلقة ليس لها عصر أدبي في الموروث الإنساني.. في الصدر أنت وفي العجز أمي.. بيت شعر أحفظه، أشرحه، أتذوّقه، أنقده.. ويظل المعنى واحد وأظل أنا قابعة أبكي بين الشطرين.. أسهر كل ليل.. أنشد أشعار الحزن على مسامع السماء.. أنصت لثرثرة أنفاسي الفارة من صخب الحياة.. أرقب الأرق قبل فوات الأوان.. ثم أدوّن كل صباح في سجل تاريخنا استقلالك أنت وأمي من عبودية الحياة.. ومازلت أبي بعدكما أسيرة قيود الموت رغم انتهاء عهد الاحتلال.. فالاحتفال باستقلالي كل عام رق آخر يصفدني بسلاسل من بهرجة الحرية المنشودة في بقيع أنفاسي. قبرًا أرتجل حضورك فيه بين برزخ خيالي وحقيقة وجودي.. لكن القبور أبي تتحدث بلغة خاصة لا أفهمها.. حتى قبور ذاكرتي المدفون فيها أنت وأمي ؟ سئمت التأرجح على هامش الحياة لألقاك معها في سماء لم أراها بعد.. سماء لن أراها إلا بعد الرموس.. فكيف هي أبي تلك اللحود؟ تربة جافة قد يكون فيها متسع للحزن أم للفرح، أم كليهما معًا! جرحًا ينزف مطرًا يبيع لأرض صبري عطش! وجع لا متناهي منذ غياب الأمس! حرف يهمس كل عام أبي: مازلت هنا بعدك.. أتألم لا يتغيّر.. يتكرر.. يجدّد معه الأسى حزن منقطع النظير لا يوجد له أبي بديل أصلي أبي كل سحر.. أرتب حقائبي للزمن.. انتظر أن تتسلل روحي خلسة كما يتسلل الفجر من ظلمة القمر على أمل أن أسكن معكما في بقيع هو اليوم لكما وطن.. لكن هو الأجل أبي.. إذا جاء لا يتقدم أو يتأخر؟. * المدينة المنورة