فإذا كانت مشابهة اليهود مباحة، وكان الاحتفاء في الصلاة مباحا، رغم أمور عدة، كانت توجب عند أهل الغلو في تحريم المشابهة أن تكون أدلة قطعية على تحريم الاحتفاء ليس كل تشبه بالكفار محرما، وليس كله مباحا = هذا أمر مجمع عليه، لا يختلف فيه اثنان ؛ لأن اشتراك البشر في البشرية يوجب غلبة التشابه بينهم في غالب أمور حياتهم. ولا ننسى أن الكفار أمم كثيرة، وحضارات متعددة، في قارات الأرض كلها، من الشرق والغرب. فالتزام مخالفة جميعهم فيه مشقة ما بعدها من مشقة، ولو كان الالتزام بذلك في كثير من شأنهم فقط، فضلا عن أكثره، فضلا عن كله! وفي السنة المشرفة ما يدل على هذا الإشكال، وعلى طريقة الاختيار في مثل ما لو تعددت طرائق الكفار في شأن من الشؤون، وهي طريقة تبين السعة في شأن المخالفة، وعدم التضييق. ولربما تدل على تبدل سياسة المخالفة، حسب تغير الأحوال أيضا. ففي الصحيحين عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قال: ( كان النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ. وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ). ففي هذا الحديث اختار النبي صلى الله عليه وسلم (فيما لم يُوحَ إليه فيه) أن يتشبه باليهود والنصارى في طريقة ترجيل شعر رأسه (وتسريحه)، وأن يخالف الوثنيين. ثم إنه عاد إلى موافقة الوثنيين، ومخالفة أهل الكتاب. وبغض النظر عن سبب تغير الموقف، وهل كان نسخا بنص، أم كان اختلافَ حالٍ اقتضى تغير الاختيار؟ فالمقصود من إيراد الحديث هنا: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج عن مخالفة الكفار كلهم، في كلتي حالتيه: فإما أن يوافق أهل الكتاب، وإما أن يوافق الوثنيين! وهذا ما سيتحقق غالبا، لعظم مشقة مخالفة الجميع، مما يوجب أن يكون للموافقة والمخالفة تفاصيل لا يصح معها إطلاق القول بوجوب مخالفة الكفار، والكفار كلهم! ولا يصح معها أن يُحرَّم شيءٌ بحجة مشابهة الكفار .. هكذا مطلقا؛ لأنك لا تكاد تخالف كفارا إلا بموافقة كفار آخرين! ومما يؤكد خطأ الاستدلال للتحريم بمطلق المشابهة: أن هناك أحاديث نبوية يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأمر، ويعلل أمره بأنه من أجل مخالفة الكفار، ومع ذلك يكون ذلك الأمر للاستحباب، لا للوجوب. مما يعني أن مشابهة الكفار في ذلك الأمر ليست محرمة، رغم وردود النص آمرا بعدم المشابهة، فكيف فيما لم يرد فيه نص؟! ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (خَالِفُوا الْيَهُودَ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ ). ولا خلاف أن مشابهة اليهود المنهي عنها في هذا الحديث ليست حراما، فما زال المسلمون يصلون حفاة، وما قيل لهم: إن هذا الفعل منكم حرام. فإذا كانت مشابهة اليهود مباحة، وكان الاحتفاء في الصلاة مباحا، رغم أمور عدة، كانت توجب عند أهل الغلو في تحريم المشابهة أن تكون أدلة قطعية على تحريم الاحتفاء = فهذا يقطع ببطلان الاستدلال للتحريم بمطلق المشابهة؛ لأسباب: 1- ففي هذا الحديث جاء ذِكْرُ أن الاحتفاء تشبهٌ باليهود، فهو تشبهٌ بالنص، وليس بالاجتهاد والظن. 2- الاحتفاء في الصلاة عمل متعلق بعبادة اليهود، وليس من عاداتهم فقط. فهم كانوا يحتفون في صلاتهم، ولذلك جاء النهي عن مشابهتهم في الصلاة خاصة، وأمرنا بالاحتفاء في الصلاة خاصة؛ لأن اليهود إنما كانوا يحتفون في صلاتهم خاصة. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: (ونزع النعل في الصلاة شريعةٌ كانت لموسى عليه السلام). 3- في الحديث أمر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا)، والأمر يقتضي الوجوب. بل هو وحده صيغة توجب التسرع بالقول بالوجوب (كما لم يُحسن فهمَ تقرير قاعدته السطحيون)، فكيف مع تعليل هذا الأمر هنا بأن علته هي عدم مشابهة اليهود؟! 4- الحديث يندرج تحت أصل عام: وهو الأمر بعدم التشبه بالكفار، بل تحت الأمر بمخالفتهم. ورغم هذه الأمور كلها: أجمع العلماء على جواز الصلاة حفاة، ولا يوجد اليوم شيخٌ من غلاة القول بتحريم المشابهة، والقول تعميم تحريمه (فضلا عن غيرهم)؛ إلا وهو نفسه يصلي حافيا! فيما أعلم!! وأرجو أن يكون ما أعلم صحيحا؛ لأنه قد يحرم بعضُهم الصلاةَ حافيا، ويخرق الإجماع، من أجل تصحيح قوله بتعميم تحريم مشابهة اليهود والنصارى!! فقد أصبحنا في زمن اللجلاج، والانتصار للنفس، باسم الدفاع عن الدين!! وفي مقال الأسبوع المقبل بإذن الله نكمل التمثيل والتقرير.