يعد تحليل البنية الفكرية والنشاطات الحركية أو السلوك السياسي لتنظيم «القاعدة»، من المنظور الجيوسياسي في التحليل، نادرًا عربيًا بل وقليلا جدًا، ولذلك فهذا الكتاب يسهم في استدراك هذا النقص في المكتبة العربية. الكتاب بعنوان: «تنظيم القاعدة.. الرؤية الجيوسياسية والإستراتيجية والبنية الاجتماعية»، للمؤلف مراد بطل الشيشاني، وصدر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتجية. ويتناول المؤلف الشيشاني (المتخصّص في شؤون الجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط وفي شمال القوقاز) موضوع تنظيم «القاعدة» كأحد روافد تيار السلفية الجهادية، والذي يعد من أبرز الأطراف الممارسة للعنف على الصعيد السياسي على الساحة، محللا نشاط التيار السلفي الجهادي، وتنظيم «القاعدة» بالضرورة، في مناطق مختلفة من العالم، تمتاز بمزايا إستراتيجية وجيوسياسية نسبية، حيث تلعب دورًا أساسيًا في السياسات الدولية على المستويين السياسي والاقتصادي. وتشمل هذه المناطق شبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام والرافدين، وأفريقيا، ومنطقة جنوب غربي آسيا، وآسيا الوسطى والقوقاز، والغرب. تنظيم القاعدة طرف غير دولة يمارس العنف منذ نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد، شهد النظام الدولي تطورات أهمها بروز «الأطراف غير الدول» كفاعلين دوليين وتناسي دور القيم في العلاقات الدولية، حيث يعبّر تنظيم «القاعدة» عن هذا التحوّل، فهو طرف غير دولة يمارس العنف من جهة ويقدم رؤية دينية لدولة بديلة لما هو قائم، ويعبّر عن رؤية جيوسياسية وإستراتيجية تعد من صميم بنيته الفكرية والحركية، كما ينشط في مناطق مختلفة من العالم، وينتمي أفراده إلى جنسيات متعددة. يتطرّق المؤلف مراد الشيشاني إلى نشاط «القاعدة» كجزء من التيار السلفي الجهادي، وذلك من خلال تحليل البنية الاجتماعية لأعضاء التيار، محاولاً شرح آليات التجنيد التي يتبعها، كما يرصد أدبياته، ويستقصي أبرز قادته المؤثرين فكريًا وحركيًا، كما يستقصي الانتشار الجغرافي للتيار، مستعرضًا بناه الفكرية والتنظيمية، ومحللا الخلفيات الاجتماعية للأعضاء المنضوين فيه، ويحاول الكتاب أيضًا أن يستشرف التيار السلفي الجهادي وسلوكه العنيف في تلك المناطق قبل أن يستشرف التحوّلات التي قد تمس وجود التنظيم نتيجةً لعوامل مستجدة؛ كمقتل بن لادن، وبروز الربيع العربي. يبدأ المؤلف بتعريف ماهية الجيوسياسة، لافتًا إلى أن الإطار النظري الذي تدور فيه نظرية الجيوسياسية يوفر اللبنة الأولى لتحليل السلوك السياسي للفاعلين الرسميين (الدولة)، وغير الرسميين (الجماعات المسلحة والشركات العابرة للحدود، وغيرها) وهو الأمر الذي ينطبق على التيار السلفي الجهادي في مناطق مختلفة من العالم، ويقدم المؤلف إطارًا نظريًا لسياق تطوّر مفهوم الجيوسياسية.. نظرياتها وتطبيقاتها ومقولاتها الأساسية، كما يقدم مدخلا للسياقات التاريخية والأفكار التي أسّست التيار السلفي الجهادي وتعبيره الأبرز المتمثل في تنظيم «القاعدة» كحركة اجتماعية سياسية متخطية للحدود الوطنية. تيار القاعدة بدأ في أفغانستان يوضح الكتاب أن تنظيم «القاعدة» بدأ عمليًا كتنظيم في عام 1998، حين تجمعت بعض فصائل المقاتلين المسلمين في أفغانستان، ثم اتسعت دلالتها تاليًا لتصبح تيارًا أكثر منها تنظيمًا، حيث باتت معظم المجموعات الراديكالية المسلحة تُنسب إلى تنظيم «القاعدة». لكن اسم «القاعدة» برز في المشهد الإعلامي العالمي عقب أحداث 11 سبتمبر، واعتبرته الولاياتالمتحدة الخطر الأكبر على أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية. وينظر المؤلف إلى التيار السلفي الجهادي كنمط جديد من الحركات الإسلامية، تولد عن محاولة التوفيق بين الأفكار الدينية والاجتماعية المحافظة والأفكار السياسية التي تبلورت أواخر السبعينيات في مصر. ومن أهم العوامل التي لعبت دورًا أساسيًا في ميلاد السلفية الجهادية، الأفكار السياسية الثورية، والأفكار الاجتماعية المحافظة؛ مثل: الثورة الإيرانية عام 1979، والتدخل السوفييتي في أفغانستان مطلع الثمانينيات. ومرورًا بالعديد من المراحل، نجد المؤلف يصف الإستراتيجية التي تبنتها السلفية الجهادية جغرافيًا بأنها نوعان الأولى تمركزت بالسودان، حيث تخرّجت عناصر نفّذت تفجيرات الرياض منتصف التسعينيات، وتفجيرات مومباسا ودار السلام عام 1998، وتفجير المدمرة «يو أس أس كول» باليمن عام 2000، وصولاً إلى هجمات سبتمبر 2001 والثانية بأفغانستان، وبرزت «القاعدة» في العراق تحت اسم جماعة التوحيد والجهاد سابقًا، و»القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي تحت اسم الجماعة السلفية للدعوة والقتال سابقًا، و»القاعدة» في أوروبا. وتحدث الكاتب كذلك عن أسباب تكوين وانتشار هذه الخلايا من ناحية إيجاد ملاذات آمنة يلعب كل واحد منها دورًا بديلاً عن الآخر بشكل يؤمّن انتقال المقاتلين من منطقة إلى أخرى، وغالبًا ما تحتوي الملاذات على عوامل داخلية ملائمة؛ مثل الفقر، والبطالة، وغياب الدولة، كما لفت الكاتب لاهتمام تيار السلفية الجهادية بالانتشار على أطراف العالم الإسلامي مثل آسيا الوسطى وشمال القوقاز والمنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان وشرق أفريقيا، علاوة على تحويل الجهاد إلى ظاهرة محلية من خلال إقناع السكان بأيديولوجيته، عوضًا عن بناء التحالفات معهم حتى لا يتعرّض لإعادة مراجعة من المعتدلين أو المواجهة مع الجهات الأمنية بالدول، مثلما حدث مع مجالس الصحوات بالعراق، والحركة القومية بالشيشان، ومن ثم ظهرت حركة طالبان الباكستانية، ومالت الجماعات الكشميرية إلى أجندة الجهاد العالمي، وانضم بعض أبناء القبائل اليمنية ل «القاعدة»، وكذلك الطوارق في شمال مالي. الربيع العربي حقق ما لم يحققه الجهاديون من خلال منهج تكاملي تحليلي، يزاوج الكاتب بين الاقتراب الكمي والاقتراب الكيفي، حيث يقوم الكاتب بتحليل حالات دراسية دون بحث الروابط فيما بينها إلا في حدود ما يسهم في التحليل الجيوسياسي لتيار السلفية الجهادية، حيث يؤكد على أن اغتيال بن لادن شكّل تحولًا في فكر الجماعات الجهادية وفي أيدلوجياتها، خاصة مع بدء نفحات الربيع العربي وتطوراته التي رسخت للجهاد السلمي للشعوب، حيث يوضح الشيشاني أن الربيع العربي حقق ما لم يحققه الجهاديون على مدى سنوات طوال من العنف المسلح وإراقة الدماء، لافتًا إلى أن الحركات الاحتجاجية في العالم العربي أظهرت أن التيار السلفي الجهادي عاجز وقاصر على تحقيق النتائج التي حققها الشباب الثائرين من خلال تظاهراتهم السلمية، مما غيّبهم عن المشهد تمامًا، كما أكد هذا الامر أن اليأس والقهر والإحباط الذي رزح تحته الشباب لعقود لم يدفعهم للعنف ولا لتبني أيدولوجية «القاعدة» ولا الفكر السلفي الجهادي، وإنما وجدوا في التفاعل السياسي السلمي نتائج أكثر نجاحًا مما حققه العنف المسلح، ليتضح أن التيار السلفي الجهادي لم يعد البديل الأخير للشبان العرب في مواجهة إحباطاتهم الاجتماعية والسياسية.