وسط دهشة الكثيرين من تبرع أثرياء غربيين بأجزاء من ثرواتهم تصل إلى حد النصف يبرز تساؤل كبير.. لماذا غابت هذه الظاهرة في عالمنا العربي والإسلامي رغم ما تزخر به ثقافتنا الإسلامية وتاريخنا الماضي من نصوص ومواقف تحث على الإنفاق والبذل؟ وهل ما يصرف من قبل رجال الأعمال والأثرياء يصب في اتجاه التنمية المستدامة التي لا تنقطع بمجرد بذلها؟ وأين غيب دور الزكاة في التقليل من فقراء العالم الإسلامي؟ وهل يمكن الاستفادة من أموال الزكوات واستثمارها ليعود ريعها إلى المجتمع وتنميته وتطويره؟ (الرسالة) ناقشت هذه القضية في سياق الاستطلاع التالي: أكد الأمين العام السابق للندوة العالمية للشباب الإسلامي عبدالوهاب نور ولي أن قيمة المال ليس في كونه رقمًا في البنك وإنما قيمة المال بأثره ومساهمته في خدمة المجتمع وتطويره، وأشار إلى أن من يتبرع للمجتمع فإنه خرج من ذاتيته إلى ذاتية المجتمع، وهذه النظرة الشاملة التي ينبغي أن يعيش الإنسان فيها، مدللًا على ما كان يحصل في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يريد تجهيز غزوات أو حل معضلة اجتماعية فإن أثرياء الصحابة كانوا يبادرون إلى الإنفاق. وأضاف نور ولي أنه من سابق الخبرة فقد وجد أن التاريخ الإسلامي كان يزخر بالأوقاف في كل جوانب الحياة مما يحتاجه المجتمع، مؤكدًا أن المجتمع الإسلامي لم يكن يغطي احتياجاته من الدولة وإنما من الأوقاف التي ينتجها المجتمع بنفسه كأوقاف المستشفيات والتدريس والتعليم حتى الخدم والأواني كانت لهم أوقاف خاصة. أما في الوقت الحاضر فيعلل نور ولي قلة الأوقاف بشيوع روح الأنانية والذاتية وعدم الاهتمام بأحوال الناس والمجتمع حتى لو اجتمع له مليار أو أكثر. وأشار نور ولي إلى أن بعض أثرياء العرب لا يعرف كيف يتصرف بثروته، ويتركها من بعده لأولاده مما يسبب الخلاف بينهم وإثارة المشكلات كما هو واقع كثير من الأسر وقد تستمر كثير من هذه المشكلات لعقود من السنين دون حل، محيلًا ذلك إلى عدم وجود هدف وغياب الرؤية عند الأثرياء، خاصة ما يتعلق بالتأثير في المجتمع ونهضته، الأمر الذي يدعو الغني للتجرد من ذاته في سبيل الآخرين. استثمار الزكاة وعن سبب تحقق مثل هذه الأخلاقيات لدى الغرب وغيابها في العالم العربي أوضح نور ولي أن هناك ثقافة تحكمهم مفادها: ما هو زيادة عن ما تستطيع الإمساك به هو زيادة وهدر، لذلك يعرفون قيمة المال فهم يعتقدون أن لديهم اكتفاءهم الذاتي فلذلك لا بد أن يساهم في خدمة المجتمع. وذكر نور ولي بما صنعه (بيل جيتس) صاحب أكبر شركة برمجيات (مايكروسوفت) عندما أتى إلى هنا (في مفارقة عجيبة) واجتمع ببعض الأثرياء حاثًا إياهم على دعم برنامج مكافحة الملاريا في اليمن، وأشار إلى (بيل جيتس) لم يكتف بالتبرع بجزء من ثروته بل جاء إلى العرب ليحثهم على ذلك وعلى دعم بعض البرامج التنموية والخدمية. وانتقد نور ولي غياب المبادرات الحقيقية لدى التجار العرب، وحتى لو وجدت فإنه غالبًا ما يكون الهدف منها إعلاميًا لإبراز صورته. وأضاف نور ولي أن جامعة مثل جامعة هارفارد التي تعد من أقوى الجامعات في العالم قائمة على الأوقاف التي تصل إلى المليارات. أما عن الزكاة وإنفاق أثرياء العرب لهذا الواجب فأوضح نور ولي أن الزكاة حق وواجب على كل إنسان ويمكن أن تسهم في بناء المجتمعات إذا أخذت وصرف بالطرق الفعالة، ولك أن تتخيل أن شخص ثروته 4 مليار فإن الزكاة الواجبة عليه سنويًا خمسة وعشرون مليونًا (25000000) ريال، وهناك دراسات في بعض المجامع الفقهية تدرس استثمار الزكاة لتنمية المجتمع، ومع هذا فإن الأثرياء عليهم واجب فوق هذه الزكاة كما يقول تعالى: "وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم". وأضاف نور ولي أن على المجتمع ككل الأثرياء وغير الأثرياء حق ليس في الأموال فقط وإنما في الأوقات والمهارات والإمكانيات، ويجب علينا ألا نعيش فقط لذواتنا وإنما نجعل المجتمع يستفيد منها، مؤكدًا على أهمية تحقيق قيمة مضافة للمجتمع، وترك أثر يستفيد منه الناس على مر الدهور، مثل آثار عين زبيدة التي لها أكثر من ألف عام، وهو عبارة عن مجرى مياه جاءت به من منطقة الكر إلى مكة، وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن تحقق تنمية مستدامة للمجتمع، مشيرًا إلى أن المجتمع لو امتلك الفاعلية التي تجعله يسد احتياجاته لما احتاج إلى الدولة، مشددًا على أن التنمية المستدامة تكون من المجتمع وإليه. أنظمة مشجعة من جانبه قال رئيس اللجنة الوطنية للحج والعمرة عضو الغرفة التجارية بمكة د. أسامة فلالي إن هناك عدة أسباب تساعد أثرياء الغرب على التبرع بنصف ثرواتهم أو أجزاء كبيرة من ثرواتهم أهمها: النظام الضريبي الذي يساعد على مثل هذه التبرعات لأنه في حالة عدم تبرعه فإن جزءًا كبيرًا من هذه الأموال سوف تذهب للحكومة في صورة ضرائب، كما أشار فلالي إلى ثقافة وقيم مسيطرة على المجتمعات الغربية، مثل قناعة كثير من الأثرياء بأن المجتمع أعطاهم لذلك لا بد من رد الجميل لذلك المجتمع، ويعترف كثير من الأغنياء بأن المجتمع ساهم في تكوين ثرواتهم لذلك لا بد من رد جزء من هذه الثروات له، وأضاف فلالي أن أثرياء الغرب يحبون تخليد أسمائهم؛ لذلك فالمتبرعون للمستشفيات أو مراكز الأبحاث تكتب أسماؤهم في تلك الأماكن ليتم تخليدها مدى الدهر. وأشار فلالي بأن بعض أثرياء الغرب وصل لدرجة تجعلهم يتساءلون فيها عن قيمة هذه الأموال؟! خاصة بعد تحقيق هذه الثروات الطائلة وتحقيق الطموحات، فما قيمتها في المجتمع وتطويره. وعن وجود مثل تلك القيم في الثقافة الإسلامية وعدم تحفيزها للأغنياء لدينا قال فلالي ان بعض الأغنياء يكتفي ببعض الأعمال مثل بناء المساجد والأربطة ويعدها صدقة جارية له بعد مماته، لكن التبرع بمليارات الريالات غير وارد في أذهانهم. إضافة إلى الجدية والإخلاص في العمل وفي التحقق من إنفاق تلك التبرعات في مجالاتها المخصصة لها. وعن دعم أثرياء الغرب لمشروعات التنمية المستدامة بخلاف الأثرياء العرب الذين يفضلون مشروعات خيرية محدودة ومقطوعة الفائدة أوضح الفلالي أن ثقافة المجتمع تلعب دورها في هذه الناحية؛ حيث تنتشر لدينا ثقافة أن فعل الخير ينحصر بشكل كبير في بناء المساجد وإعطاء الفقراء والضعفاء والأرامل مستندين إلى بعض الأحاديث التي تحث مباشرة على الثواب في الجنة فقط. أما أن يتبرعوا لدعم مراكز أبحاث وبناء جامعات وغيرها فهذه الثقافة غير موجودة عندنا، مشيرًا إلى أن الكراسي العلمية الآن بدأت تفتح هذا المجال.. استثناء وليست ظاهرة لكن الأمين العام لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية د. عدنان باشا لا يرى أن تبرع الأثرياء الغرب بنصف ثرواتهم أو أجزاء منها يعد ظاهرة وإنما هو استثناء موجود في الغرب وكذلك في الشرق على حد سواء، لكن قد يكون في الغرب بعدد أكبر من العالم الإسلامي، وهذا محل استغرب مع أن الدين الإسلامي يحض على الإنفاق والبذل والإحسان، والتحذير من شح النفس واعتبار الوقاية منه من علامات الصلاح والفلاح والنجاح. وأرجع باشا أسباب ذلك إلى غياب أو ضمور القيم الروحية الإسلامية من عقول وقلوب وأرواح كثير من أبناء المسلمين مع ورود كثير من الآيات والأحاديث التي تشجع على مثل هذه القيم. وأشار باشا كذلك إلى وجود غريزة حب التملك الموجودة في الإنسان والتي تعد من أشد الغرائز وحشية، كما قال تعالى "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة... "، وتحتاج إلى مجاهدة كبيرة ومقاومة صعبة، وإرادة صلبة فولاذية. وأشار باشا كذلك إلى أمثلة رائعة كما وصفها في التاريخ الإسلامي عن صور التبرع بالثروات كاملة وليس نصفها كما فعل أبو بكر الصديق. وانتقد باشا ما يعيشه الواقع الإسلامي من انفصام عن قيمه ومبادئه النبيلة التي تسببت في خفوت وضعف مثل هذه الظواهر. وعن تقدم الغرب في مثل هذه القيم ذكر الباشا أننا نملك من القيم السامية أكثر مما يملكون لكنها وجدت عندهم لأنها أصبحت سلوك وثقافة، وهذا لا يأتي بالخطب الرنانة ولا ببرامج التلفزيون وإنما يجب أن يبدأ من مناهج التعليم والتربية في المنزل، مشددًا على ضرورة الحث على قيم مثل الإيثار والتبرع وخدمة الآخرين من الأسرة ومن المدرسة. وأكد باشا على المساحة الشاسعة التي تفصل المسلمين عن قيمهم وتعاليم دينهم. كما أوضح باشا أن هناك ما يشجع على مثل هذه الثقافة لدى الغرب وهو قانون الضريبة التصاعدية التي يواجهها الأثرياء بقانون آخر وهو قانون الخفض من الضرائب في حالة التبرع للجمعيات والمؤسسات الخيرية. فالغربي يفكر أنه بدلًا من إنفاق هذه الأموال ودفعها للحكومة فإنه يفضل دعمها للجهات الخيرية. كما أن ثقافة الوقف التي كانت مزدهرة في تاريخنا أصبحت الآن مزدهرة في الغرب كما هو حال أكبر الجامعات التي تمول ميزانياتها الضخمة وميزانيات أبحاثها تقوم على الأوقاف. وأكد باشا أن أبواب الخير واسعة وكثيرة ولا ينبغي قصر التبرعات والأعمال الخيرية على الجوانب الفردية فقط، مشيرًا إلى ما امتاز به نظام الوقف التي تعددت منافعه ومجالاته ووصلت لحد الإحسان إلى الحيوانات. كما انتقد باشا قصر الصدقات وأعمال الخير على فترة زمنية محددة مثل رمضان وغيره مضيفًا أن أبواب الخير مفتوحة طوال العام وسجلات الحسنات كذلك مفتوحة طوال العام. وأوضح باشا أن فريضة الزكاة لو طبقت بشكل واف ومستحق لما وجدت فقيرًا في العالم الإسلامي. ودعا باشا إلى تطبيق هذا الركن الهام من أركان الإسلام بشكل دقيق وكامل حتى لا نجد فقيرًا واحدًا في العالم الإسلامي. انتظار الوصية أما رجل الأعمال عبدالله مرعي بن محفوظ فقد أكد أن أثرياء الغرب يتبرعون بنصف ثرواتهم وهم أحياء ويتبرعون بالنصف الآخر بعد مماتهم للأعمال الخيرية والاجتماعية، مشيرًا إلى أن تميز الإسلام وتشريعاته، ووضح كيف يتبرع أو يقسم المال بين الورثة وبين الأعمال التطوعية. وانتقد بن محفوظ تسارع كثير من الأثرياء في كتابة وصيتهم وتخصيص نسب منها للأعمال الخيرية بعد مماتهم متسائلًا لماذا لا يقيموا هذه المشروعات في حياتهم وليس بعد مماتهم؟! لماذا لا يخصصون جزءًا من هذه الثروات للمشروعات الاجتماعية والخيرية التي تنمي وتظهر اهتمامهم بالمسؤولية الاجتماعية؟ لماذا يركنون إلى وصيتهم بعد مماتهم وهم غير متأكدين أن الورثة سينفذون وصاياهم؟ ويشير ابن محفوظ إلى أن كثيرًا من الأثرياء ماتوا وتركوا وصيتهم لكنها لم تنفذ لاختلاف الورثة. ومن وجهة نظر ابن محفوظ أن رجال الأعمال في العالم العربي وفي السعودية على وجه الخصوص مقصرون تقصيرًا كبيرًا في مساهماتهم الخيرية والاجتماعية والإنسانية في حياتهم، موضحًا أنه بإمكانهم وحسب النص الشرعي التصرف في ثلث أعمالهم، فلماذا لا تخصص للعمل الاجتماعي؟ وأشار ابن محفوظ إلى نموذج (بيل جيتس) وغيره من الأغنياء تركوا الملايين والمليارات وتبرعوا بها وهم أحياء، وأشرفوا على تنفيذها في حياتهم، بل أنشأوا مؤسسات لرعاية هذه الأموال بعد مماتهم، لكننا لم نلحظ في بلادنا أن رجل أعمال تبرع بأرض لإنشاء جامعة مثلًا. وعن السبب في ذلك قال ابن محفوظ ان هناك فهمًا خاطئًا لدى الأثرياء العرب في مفهوم الخدمة والمسؤولية الاجتماعية؛ فيعتقد الأثرياء أن الزكاة هي الواجب الوحيد الذي عليهم أن يؤدوه، والزكاة ركن أساسي ومهم لكنهم لا ينظرون إلى المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتقهم، لذلك فهناك خلط وخطأ في المفاهيم يعتقد من خلاله رجل الأعمال أنه أدى ما عليه تجاه المجتمع فقط بأدائه الزكاة، هو أدى ما عليه تجاه دينه وتجاه ركن من أركان الإسلام لكن الدور الاجتماعي لم ينل حظه من هذه الرعاية والاهتمام لديهم ويكاد يكون ضعيفًا لدى التجار. وطالب ابن محفوظ التجار والأثرياء بتحمل مسؤولياتهم الكبيرة جدًا تجاه المجتمع وذلك بتخصيص جزء من أموالهم لمشروعات تنموية تخدم المجتمع في حياتهم وليس بعد مماتهم، والفرصة متاحة لهم وهم أحياء أما بعد مماتهم فلا يعلم أحد ما يمكن أن يقوم به الورثة تجاه أموالهم. وألقى ابن محفوظ اللوم والعتب على أبناء التجار الذين وقفوا أمام أبائهم وحجروا عليهم، كما انتقد أولئك الذين أصدروا قرارات بالحجر على من يريد تقديم خدمات إنسانية للمجتمع. وأكد ابن محفوظ أن العمل الاجتماعي والخيري مطلوب بشكل كبير جدًا لكن رجال الأعمال يلجأون إليه في آخر حياتهم أو بعد مماتهم وهذا ليس عيبا أو نقيصة بل بالعكس هو إحساس بالمسؤولية حتى لو في آخر لحظات حياتهم. موجها التجار إلى النظر إلى المجتمع بعين الاهتمام لا سيما وأنهم عاشوا وتربوا واغتنوا منه. وأضاف رجل الأعمال أنه لو حسبت أعداد رجال الأعمال في المملكة وقورن هذا العدد بما قدموه للمجتمع فإننا سنجد النسبة ضئيلة جدًا، وقلة منهم من يهتم بالعمل الاجتماعي بينما الغالبية تجمع وترصد الملايين وتنظر تطبيق وصيتها بعد مماتهم. 38 مليارديرات يتنازلون عن نصف ثرواتهم للأعمال الخيرية في الوقت الذي يعلن فيه بيل جيتس بالتبرع بنصف ثروته لأعمال الخير، أعلن كذلك الملياردير المكسيكي كارلوس سليم عن استثماره 317 مليون دولار لدعم التعليم في بلاده على مدار الأعوام الثلاثة المقبلة. كما أعلن جاكي شان النجم الصيني المعروف وبطل أفلام الحركة أنه لن يترك أي شيء من ثروته التي تقدر ب 130 مليون دولار لابنه، وسيتبرع بها بأكملها إلى الجمعيات الخيرية. في السياق ذاته قال بول آلان الذي شارك في تأسيس (مايكروسوفت) انه سيتبرع بمعظم ثروته التي تبلغ 13. 5 مليار دولار. وارن يافت التي تبلغ ثروته 44 مليارا يتبرع بنحو 37. 4 مليار دولار من ثروته للأعمال الخيرية. (جون ماركس) الذي يحاول المصالحة بين العلم والدين تبرع ب550 مليون دولار أمريكي. وحسب إحصائيات إعلامية فإن نحو 75 مليون أسرة أمريكية تتبرع بشكل دائم، و1. 5 مليون شركة، و120 ألف منشأة، و77 ألف مؤسسة، وتذهب التبرعات لأكثر من 1. 2مليون مؤسسة ونحو 350 ألف محفل ديني. ومؤخرًا أعلن 38 مليارديرا أمريكيا التنازل عن نصف ثرواتهم للأعمال الخيرية. المزيد من الصور :