الإشكال في فهم طبيعة النظر الفقهي الشرعي، فهو نظر ذو فلسفة شاملة لمنظوماته؛ فهو لا يفصل بين ما هو سياسي وما ليس كذلك، فهذا الفصل لوثة أجنبية بعد توصيف مفهوم الدستور والقواعد الدستورية بالمعنى القانوني المعاصر، أقول : عوداً على بدء، كان السؤال الأول: هل للدولة الإسلامية دستور بالمعنى القانوني المعاصر؟ والجواب هنا يتطلب - قبل التفصيل فيه- بياناً لإشكالية مهمة، وهي إشكالية المصطلح في كثير من المفاهيم السياسية والقانونية، بما فيها مفهوم الدستور هنا، ومع تشعب هذا المشكل ووجود مؤلفات عديدة تكشفه وتبين أثره في تحريف المفاهيم وبناء التصورات ولا زال بحاجة للبحوث التطبيقية، إلا أن الذي يهمنا منه هنا جهتان : الأولى : إشكالية حصر كثير من دارسي القانون للدستور في وثيقة الدستور، التي يمكن وصفها بالشكل النمطي للدستور بالمعنى القانوني في إطار تصنيف الدساتير المكتوبة ليس إلا، مع أنَّه قد لا يشمل كل القواعد الدستورية بل ولا المبادئ الدستورية، كما سبق، وكما أشرت عند استعراض تصنيفات الدساتير العالمية . والثانية : إشكالية غرابة المصطلحات الإسلامية الدستورية في هذا العصر، بسبب إقصاء الشريعة الإسلامية وغياب النظام الإسلامي في كثير من المجتمعات الإسلامية، وقد نبّه إلى هذه الإشكالية عدد من الباحثين والمفكرين، ومن ذلك قول أبي الأعلى المودودي رحمه الله في كتابه:(تدوين الدستور الإسلامي) : "المشكلة الأولى جاءت من جهة اللغة، وبيان ذلك : أنَّ النّاس عامّة في هذا الزمان، قليلاً ما يتفطنون لما ورد في القرآن وفي كتب الحديث والفقه من المصطلحات عن الأحكام، والمبادئ الدستورية...ففي القرآن الكريم كثير من الكلمات نقرؤها كل يوم! ولكن لا نكاد نعرف أنها من المصطلحات الدستورية، كالسلطان والملك والحكم والأمر والولاية؛ فلا يدرك مغزى هذه الكلمات الدستوري الصحيح إلا قليل من النّاس. ومن ثمّ نرى كثيراً من الرجال المثقفين يقضون عجباً ويسألوننا في حيرة إذا ذكرنا لهم الأحكام الدستورية في القرآن: (أَوَ في القرآن آية تتعلق بالدستور) ؟ والحق أنه لا داعي إلى العجب لحيرة مثل هؤلاء الأفراد، فإنَّ القرآن ما نزلت فيه سورة سميت (بالدستور)، ولا نزلت فيه آية بمصطلحات القرن العشرين " . هذا فضلاً عن الإشكال في فهم طبيعة النظر الفقهي الشرعي، فهو نظر ذو فلسفة شاملة لمنظوماته؛ فهو لا يفصل بين ما هو سياسي وما ليس كذلك، فهذا الفصل لوثة أجنبية، زادت استشكال المتأثرين بها في حقيقة الدستور الإسلامي؛ ويُوضح ذلك الدكتور عبدالعزيز عزّت الخيّاط في قوله : "النظام السياسي للإسلام معروف للعلماء عل الرغم من أنهم لا يفصلون بين ما هو سياسة وما هو دين، فكل التنظيمات والتعاليم من الدين؛ لذلك نجد علماء العقيدة يتحدثون عن الحكم والخلافة والسياسة وعلاقة الحاكم والمحكوم كما يتحدثون عن الواجب في حق الله وعن صفاته وعن النبوة واليوم الآخر، كما نجد علماء الأصول والفقه يتناولون شؤون العبادات وأصول الأحكام، مثلما يتناولون موضوعات القضاء والشهادة والعقوبات والمعاملات والعلاقات الدولية وأبحاث الجهاد والسير وغيرها، وفي وضوح ودقّة لا تجدها في أبحاث المعاصرين من علماء السياسة والدستور ... ويقول الأستاذ محمود فياض : وهكذا يستطيع كل راغب في البحث التعرف إلى بحوث علماء المسلمين السياسية والدستورية في غير كبير عسر ولا مشقة، فسيجد آراء فقهاء الإسلام الدستورية واضحة جلية . وقد فهم المسلمون منذ أول يوم قامت فيه دولتهم : أنَّ النظام السياسي جزء من أنظمة الإسلام ويشمل النظرية السياسية ونظام الحكم" . ولا يخفى على مسلم يعرف معنى الإسلام ومراتبه التي تحكم العقيدة والشريعة -فضلا عن من له أدنى معرفة بحقيقة النظام السياسي الإسلامي- أنَّ النظام السياسي بنصوصه وفقهه الدستوري، جزء من النظام الإسلامي الشامل المتكامل؛ غير أنَّ الاستناد في بيان ذلك إلى المعايير الموضوعية في تمييز القواعد الدستورية عن غيرها، يجلي الجواب لمن لا يدرك هذه الحقيقة أو لديه غبش فيها؛ فمما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، ولا يخالف فيه عالم من علماء الإسلام: أنَّ الإسلام عقيدة وشريعة، وأنَّ الإسلام دينٌ مِنْهُ الدولةُ، التي غايتها: حفظ الدين وسياسة الدنيا به باتفاق علماء الإسلام المعتبرين عند أهل الإسلام على مرّ العصور؛ لذلك اتفق علماء الإسلام على أنَّ حقيقة النظام السياسي الإسلامي تكمن في تحقيق مقصديه الرئيسين : حفظ الدين، وسياسة الدنيا به . وكل انحراف في فهم هذا النظام، هو انحراف عن فهم حقيقة الإسلام ، ومن ثمّ فهو انحراف عن فهم حقيقة النظام السياسي في الإسلام المتفق عليها بين علماء الإسلام . ومستند أهل الإسلام في ذلك جملة النصوص الدستورية في القرآن والسنة، التي تتضافر على تأكيد هذه الحقيقة . وهذا ما سيتضح في الجواب التفصيلي في المقالات التالية إن شاء الله تعالى.