* توقّفنا في الحلقتين السّابقتين من دراستنا للورقة التي أعدّها الباحث الأمريكي Harry E.wcdeek عن الرحالة غير المسلمين الذين تسللوا إلى المدينة المقدسة «مكةالمكرمة»، عند شخصية الرحالة السويسري «جون لويس بيركهارت»، 1784-1817م، والذي لم يمتدّ العمر به طويلًا حيث توفي عن ثلاثة وثلاثين عامًا، وكان من أهم كتبه «رحلات إلى شبه الجزيرة العربية والصادر في عام 1829م،Travels In Arabia. * وإذا كان بيركهارت قد وصل إلى القاهرة كما يذكر «أودييك» بعد انقضاء رحلته تلك مرهقًا وفي حالة أقرب إلى الاحتضار وذلك في عام 1815م وبالتالي كانت وفاته بعد عامين أي في عام 1817م، فإن كتبه التي تضمنت مشاهداته لم تنشر إلا بعد وفاته. * وعلى النّقيض من شخصية بيركهارت العلمية يبرز لدينا اسم رحالة آخر هو «جيوفاني فيناتي» Giovanni Finati وكان هذه الرحالة الإيطالي الهوية قد تمّرس بالسّفر في الصّحراء من خلال مشاركاته في ثلاثة جيوش، ففي مصر حارب ضدّ المماليك ثمّ هرب من الجيش، وتمكّن من الاتصال بامرأة تركية، والتحق بحملة متوجّهة إلى مكّة من مصر، ودخل البلدة المقدّسة سنة 1814م. * ثمّ تقابلنا شخصيّة الحاج عمر، وهو فرنسي الأصل واسمه الحقيقي:ليون روشيه (Leon Roches) الذي يشير «ودييك» بأنه يستحق الاهتمام والدراسة، فوالده هاجر من مدينة جرينوبل «Grenoble» الفرنسية إلى البلد العربي الجزائر، ويذكر الباحث في فنّ الرحلات د.عدنان اليافي بأن والد «ليون» شارك في الحملة الفرنسيّة على الجزائر عام 1830م وأن الإبن (ليون) لحق بوالده في الجزائر في 30 يونيو، 1832م. [أنظر: «المدينةالمنورة في أعين الرحالة الغربيين» د. عدنان عبدالبديع اليافي، 1433ه، ص: 171-174]. * ويعرِّج ودييك على ناحية هامة في شخصية «ليون» وهي أنه كان رومانسيًا، مدلّلًا بوقوعه في علاقة خاصة بامرأة من أصل شركسي ومن خلال تلك العلاقة أخذ في دراسة اللّغة العربية وهذا فتح الطّريق أمامه ليصبح مترجمًا غير رسمي وبالتالي لينضمّ للبعثات العسكرية، ومن خلال مهنته الجديدة استطاع تطوير قدراته المكتسبة في حقل «العربيّة»، وفي سعي منه للهروب من تجربته العاطفية التي توصف بأنها فاشلة فلقد فرّ من مصر ليصل في رحلته إلى المدينة المنوّرة ثمّ إلى مكّة المكرمة التي دخلها في عام 1841م. * لم تدم إقامته في مكّة إلا عدة أسابيع، حيث إنّه أثناء حضوره مناسبة إاتماعيّة سمع صرخة مدوية:» اقبضوا المسيحي» في إشارة إلى «ليون» نفسه إلا أن تدخّل جنود الحكم آنذاك أنقذه من عملية الإمساك به لوجوده في المدينة المحرمة على غير المسلمين، ويبدو أنّ هذه الخبرات التي اكتسبها هذه الرّحالة مهدَّت الطريق أمامه ليدخل عالم الديبلوماسيّة. ويقارن ودييك في هذا المنحي بينه وبين الرحالة «داوتي»، والذي بالعودة إلى قاموس كيمبردج للأدب الإنجليزي نجد أن اسمه هو» Charles Montagu Doughty وقد ولد لأسرة دينية إنجليزية في مقاطعة Suffolk سنة 1843م، وأنّ وفاته كانت في عام 1926، وأنه مثل «ليون» درس العربية بين عامي 1875-1876م ثمّ بدأ رحلاته التي اختلط فيها مع قبائل الجزيرة العربيّة لمدّة عامين، وقد أثمرت تلك العلاقة عن كتابه الذائع الصيِّت: Travels In Arabia Desserta رحلات في شبه الجزيرة العربية.[أنظر: عن ترجمته وحياته: The Cambridge Guide To English literature / Michael Stapleton 1985.p 248]. * ولعلّنا نلاحظ من خلال ما ذكره باحثنا «ودييك» وسواه أنّ القاسم المشترك في حياة كل من بيركهارت، وليون، وداوبي، هو سعيهم لإجادة اللّغة العربية والتي مكّنتهم من التسلّل بطرق عدّة إلى العالم العربي، وخصوصًا للمدينتين المقدستين، مكّة المكرمة، والمدينة المنوّرة، وأنّ بعضهم قد كوفئ لما كشف عنه من معلومات عن تلك البلاد التي زارها واستقرَّ فيها لمدّة من الزّمن بدخوله لعالم الديبلوماسيّة من أوسع بابها، وإذا دقّقنا النّظر في تاريخ تلك الرّحلات نجدها قد تمّت مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلاديين، وهي الحقبة التي شهدت صراعًا سياسيًا بين الدولة العثمانية آنذاك والدول الغربيّة وبخاصة إنجلترا وفرنسا، وما تبع ذلك الصّراع من تقاسم السّلطة بين الدول الغربيّة لاحقًا في البلاد العربيّة، ولا يزال العالم الغربي ينظر إلى تلك البلاد من رؤية المصلحة الذاتيّة بعيدًا عن هموم وتطلّعات وآمال شعوب المنطقة المشروعة، بل يمكن القول إنّ هناك تصادمًا واضحًا بين الرؤيتي، ولا يبدو في الأفق أيّ تصالح بين الرُّؤتين. (*) جامعة الملك عبدالعزيز