الاعترافات اُشتهرت في الهياكل القديمة على عهد الحضارة البابليِّة قبل السّيد عيسى عليه السَّلام بعدِّة قرون، وكانت في حقيقتها ضربًا من العلاج الجثماني - كما يقول بذلك أحد المفكرين- الذي يتطلبه المريض من الطَّبيب؛ لأنَّ البابليين كانوا يعتقدون أنَّ المَرَض والبلاء على اختلافه عقوبةً إلهيةً يقتصّ بها الأرباب من أصحاب الذنوب والخطايا، وأنَّ الذي يبوح بخطيئته، ويندم عليها؛ يُشْفى من دائه بوساطة الكهّان والأحبار، فكان الاعتراف بهذه المثابة ضربًا من الاستشفاء كعلاج الأمراض بالطب في العصر الحديث. وهكذا عاد، كما بدأ في أوائل القرن العشرين، فشاع الكلام عن الكبت، وعن العُقد النفسيّة، وعن أثر التنفيس عنها؛ بالاعتراف، والكشف في شفاء الأبدان والنفوس، فتمّت الدائرة في حلقة مفرغة من أيام البابليين، إلى أيامنا هذه في القرن الواحد والعشرين. ولن يكون الاعتراف اعترافًا في رأي بعضهم إلاَّ إذا كان اعترافًا بأمر يغلب على الناس إنكاره وكتمانه، فلا يفهمون من الاعتراف إلاَّ أنَّه إعلانٌ ( لخبيئة) في النفس (تُشين) صاحبها وتدعوه إلى إخفائها. ولكنَّها على التّحقيق مغالطة من مغالطات العُرف التي تواضع عليها أبناء آدم وحواء - كما يقول الأستاذ العقاد- على سنة الكذب والرياء؛ فهم جميعًا سواسية في الخطايا والعيوب التي يخفونها، ولا يعترفون بها، ومتى صدق عليهم قول السيد المسيح" من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر" فلا حاجة بهم إلى الحجارة، ولا إلى الرّجم، ولا معنى لخجلٍ قومٍ، وشموخ آخرين؛ ما لم يكن الإنسان ( مجرمًا) غارقا في (الإجرام)، أو(نذلاً) مغرقًا في (الخسة) فعيوبه وخطاياه (قاسم) مشترك أعظم، بينه وبين الآدميين جميعًا من قبل الطوفان إلى نهاية الزمان. إنَّ الوقوع في الخطأ خلّة من خلال العاملين والمجتهدين، وصفة لازمة من لوازم البشريّة التي هي في حقيقة أمرها ضريبة مدفوعة في حال الاجتهاد، وبذل والوقت، وتحمل العناء. فليس في عُرف العقلاء ناهيك عن الرّعاع والدّهماء من لم يخطئ بصورة من الصور، سواء في حق نفسه التي بين جنبيه، أو في حق غيره من عباد الله. مع إيماننا التّام بتكرار الخطأ من قبيل بعض الناس بقصد، أو دون قصد. ومع إيماننا التّام - أيضًا - بما أسلفت، إلاَّ أنَّنا لا نعفي نفسنا من تكرار الخطأ في ذاته، وهذا عيبٌ في حق أنفسنا، وهذا هو الخطأ المشين، والخلل الذي يضعفنا أمام أنفسنا، وأمام من حولنا. وإذا نحن بهذا الاعتبار نقرُّ بالخطأ، وتكراره؛ فالمثالية في الجانب الآخر مطلب محمود، ومركب صعب، وتزداد الصعوبة حين يعتلي بعض الجهلة في زِنة عباد الله، فيزنونهم بميزان الهوى: أهدافاً شخصيّة، ومآربَ دنيئة، فهؤلاء لا يعرفون إلاَّ المساوئ، ولا يستصحبون إلاَّ السوءات يعرونها ويزيدون من تعريتها. وجملة القول إنَّ الاعتراف بالخطأ - تحديدًا - لا يتمثله إلاّ قلّة قليلة من ذوي الألباب، والنفوس الكريمة؛ القادرة على تحمّل التّبعات ودفع ثمن المسؤوليات.