ترى ما ملامح النموذج التركي المحتمل أن تؤول إليه حركات التغيير العربية؟. لن أحدثك عن شكل المؤسسات في تركيا والعلاقات التنظيمية التي تربطها؛ لأنها مجرد أشكال سريعة التغيير في مرحلة غير مستقرة، ولدى حكومة أردوغان مشاريع لتغيرات مهمة بصدد تلك الأشكال والعلاقات فيما لو فازت بانتخابات يونيو المقبل، وهي فائزة بلا شك، السؤال فقط هل ستحصل على أغلبية كافية لإنفاذ مشاريعها أم لا؟. النموذج التركي الذي أقصده حالة وموقف من قضية التحديث التي يدور التاريخ الشرقي المعاصر حولها منذ قرن، التحديث طريق (لا قرار قابل للتطبيق في لحظة) ينتهي بتغليب مؤسسات العدل والتعايش على مؤسسات القوة، هو طريق لأن التركيبة الثقافية الاجتماعية لن تتيحه بين ليلة وضحاها، ناهيك عن مقاومات اللوبيات (جماعات المصالح) التي يضيرها ذلك. حركات التحديث تاريخيًا انطلقت من أسطنبول والقاهرة، وسميت إصلاحات، ولازالت محتفظة بالاسم إلى يومنا هذا. تمت تلك الإصلاحات لغرض رفع كفاءة مؤسسات القوة، ثم استكملت بطلاءات ديكورية لغرض التلائم مع عالم معاصر لم يعد من سبيل سوى التماثل معه للعيش فيه، بتعبير آخر كان المطلوب تحديثًا للأدوات فقط خدمة لمؤسسات القوة بدون سعي جاد نحو بناء الدولة الحديثة. كل ما روج على أنه تحديث وتقدمية لم يكن كذلك، والكمالية في تركيا مثال واضح، لم يكن هناك سوى إصلاحات قادتها مؤسسة القوة بغية رفع كفاءة نفسها وزيادة إحكام قبضتها على المجتمع، متحالفة لهذا الغرض مع البيروقراطية الأداة الأخرى المهمة من أدوات السيطرة، هذا هو جوهر النموذج الشرق أوسطي للتحديث الذي تم اعتماده مع اختلاف التنوعات، وبصرف النظر عن غطائه الأيدلوجي، أكان اشتراكيًا أم قوميصا أو ما سوى ذلك. فقط عندما اعتمدت تركيا إصلاحات حقيقية تحرك قطارها نحو محطة إقامة الدولة الحديثة، تم ذلك بتقليص نفوذ العسكر لحساب سيادة القانون، وأدى إلى ظهور أحزاب وقوى سياسية غير صورية، مثل هذا التحول لا يحدث بصورة آمنة ما لم تقبل به مؤسسات القوة، وما حدث في تركيا أن العسكر قبلوه، ولو بعد تردد وعلى مضض، المهم أنهم قبلوه، وذلك موقف وطني يشكرون عليه، فيه بعد نظر يرنو إلى التاريخ، فالتاريخ ليس عشوائيًا كما قد يبدو، ربما غامض في بعض الأحيان، ومتذبذب في أحيان أخرى، إلا أن له اتجاهًا عامًا يتحرك إليه يمكن إدراكه، وحركته قد تتوقف مؤقتًا، كما يمكن أن تعاق، إنما يستحيل أن تغير اتجاهها. النموذج التركي (وهو نموذج متحضر بعيد عن سفك الدماء) قابل للتكرار في مصر أو تونس، وفي سوريا إن كان ثمة فرصة للتغيير، ولو أني أعتقد أن لا فرصة للتغيير هناك. من الوجهة النظرية الديمقراطية ليست شرطًا ضروريًا للدولة الحديثة، أما القانون ومبادئه وسيادته فلا شيء يعوض غيابه. وفي هذا الشرق كلما أعطيت الديمقراطية فرصة جاءت بأحزاب ذات خلفية دينية، لم تستثن من ذلك تجربة واحدة!، ولهذا أسبابه المرحلية، لأننا نتحدث عن مجتمعات لم تمارس يومًا الحقوق السياسية ولا المعارضة إلا من خلال الخطاب الديني، مع ذلك فإن أحد خصوصيات التجربة التركية أن حزب العدالة والتنمية لا شبيه له بين الأحزاب ذات الخلفية الدينية في الشرق الأوسط، لا يشبه الإخوان المسلمين ولا جبهة الإنقاذ ولا الأحزاب ذات الثقل المذهبي في العراق، أيدلوجيته ليبرالية، حتى في توجهاته الدينية منطلقاته ليبرالية، لا يوجد في مصر الآن حزب بهذه المواصفات، سوى أن ليس هناك ما يمنع وجوده. [email protected]