تُكثِر فئة من الإسلاميين، تحديداً من وصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع في تونس والمغرب ومصر، من التصريحات التمهيدية عن محبتها للغرب، ووجود قواسم مشتركة وتقاطعات بينهما لا يمكن تجاهلها! وهذه الفئة تمثل ما بات يوصف بالإسلام المعتدل، هذا الذي تُجسد تركيا العدالة والتنمية، الليبرالية اقتصادياً، والتي ما زالت عضواً فاعلاً في الناتو، وتحافظ على رغم التوترات على علاقتها بإسرائيل، وترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي... نموذجه الأكثر تبلوراً. هناك ميل كبير الى نسيان سياق التجربة التركية. ميل يتجاهل أثر الكمالية التي طبعت تركيا بطابعها، وما زالت. ويتجاهل أن هناك تيارات راسخة متنوعة داخل المجتمع والدولة التركيين على السواء، توفر حداً عالياً من توازن القوى الفعلي، ويتجاهل أخيراً أن أردوغان وصل إلى السلطة بعد صراع داخل التيار الإسلامي ذاته، وخصوصاً مع أربكان، والده الروحي. وبسبب كل ذلك، اضطر حزب العدالة والتنمية إلى تطوير براغماتيته وقدرته العالية على عقد التسويات. كما اضطر للنأي بنفسه عما يمثله تيار أربكان من سعي إلى تأسيس بنية فكرية متكاملة، إسلامية، وقد يصح أيضاً أنها حداثية، وإنما منسجمة عضوياً وليست تلفيقية، بنية مهجوسة بتوليد نموذج «يتمسك» بالمفاهيم الفلسفية للإسلام ويعمل على استنطاقها وبلورتها وتحديثها، ويؤقلم في آنٍ سائر الميادين معها. وبصرف النظر عن الآراء التي تشك في عملانية هذا المشروع، وقدرته الفعلية على تحقيق المواءمة بين مرتكزه وتجلياته وحركته في عالم اليوم، بل قد تناقش الحاجة له أصلاً، وتبرز محافظته، يبقى أن المسألة التي يطرحها اتجاه أربكان على نفسه تقع في مكان آخر تماماً، قام حكم العدالة والتنمية على أنقاضه. وهكذا، فإن كان ثمة شبَه بين براغماتية العدالة والتنمية التركي وتلك التي تُظهرها حركات الإسلام السياسي المنتصرة في الانتخابات أو تطمح إلى الوصول للسلطة من طريق صناديق الاقتراع في المنطقة العربية، فإنه لا يسمح بالإحالة على النموذج التركي اقتصاداً للجهد المطلوب في تفحص وتفسير مواقف وممارسات تلك التيارات الإسلامية العربية، ولا بأي اختصار تمارسه هي أو يمارسه الآخرون عليها. هذا في الإطار العام الذي تشكل الموضوعة الإشكالية للعلاقة مع «الغرب» جزءاً أساسياً منه، باعتبار الواقع السياسي والاقتصادي والجيواستراتيجي بكل تعقيداته وتجلياته، وليس أبداً، وكما يوحي النقاش الدائر، انطلاقاً من اعتبارات هوياتية بل حتى أيديولوجية تحيل على جوهر افتراضي. فتلك العلاقة تتحدد انطلاقاً من حسابات الهيمنة والاستغلال وتوازنات القوى وعلاقاتها بالصراع على السلطة... أي ما يُعرِّف السياسة. وأخيراً وبعد فوز حزبه بالمرتبة الأولى في الانتخابات في المغرب، صرّح عبد الإله بن كيران المكلف تشكيل الحكومة، بأن «الغرب ليس شريكاً تقليدياً فحسب، لكنه شريك فلسفي للمغرب»، و «روح المغرب هي الليبرالية، لأن الاشتراكية لم تدخله إلا على مقدار ما هو نافع»، مجدداً تأكيد أن «الغرب حليف للمغرب»، وهذا الواقع «منطقي وغير قابل للتغيير»! وقبله شدد راشد الغنوشي، عقب فوز «النهضة» في الانتخابات التونسية، على رغبته في الانضمام الى لاقتصاد العالمي (على رغم أن هذا الأخير يدق عنقه، ويقدم كل دواعي النفور منه والهرب بعيداً عنه)، ودعا المستثمرين الأجانب إلى العودة من دون خشية إلى تونس تحكمها «النهضة». ولأن الغنوشي مثقف كبير، ولأنه عاش في الغرب لعقدين على الأقل، ظل أكثر تحفظاً من قرينه المغربي، حاصراً مهمة الالتحاق بالغرب بالجانب الاقتصادي، وباعتبارات حسن الجوار، من دون إدخال الفلسفة والروحانيات إلى حقل تَشارُكِه معه. الواضح أن غاية تلك التصريحات هي طمأنة ذلك الغرب الى أن «النهضة» أو «حزب العدالة والتنمية» المغربي، ومعهما جماعة «الإخوان المسلمين» المصرية (التي لم تفوّت مناسبة للتشديد على هذا) ليست «بعبعاً»، مما يندرج في جهود إحاطة الوصول إلى السلطة بشروط السلامة. ومن المفارقات المضحكة أن هذا الجهد لا يبدو نافعاً. فقد راحت تخرج في ذلك الغرب ذاته (كما في بلادنا) أصوات وأقلام كانت ملأت الدنيا ضجيجاً عن القيمة العليا للديموقراطية، تناقش تلك الديموقراطية نفسها طالما أن نتائجها ليست «لائقة» إلى هذا الحد. ولم يبقَ سوى خطوة صغيرة، ربما نشهد قريباً اجتيازها بيسر، تفصل بين هذا القلق من الديموقراطية (وليس عليها!)، وبين العودة الى لاحتماء بحضن الموقف الكولونيالي الذي يعتبر أن المجتمعات العربية ليست مؤهلة للديموقراطية بعدُ، بل لمَ لا، إعادة الاعتبار الى حاجتها إلى حكم كولونيالي مباشر يُحضِّرها! وتندرج في هذا السياق حملة العلاقات العامة التي تشنها حركة «النهضة» في كل الاتجاهات، ومنها زيارة الغنوشي الولاياتالمتحدة قبل أيام، وما صاحبها من صخب إعلامي وإشاعات وتصريحات يقال إنها حرِّفت وجرى التلاعب بتعابيرها وتقطيع أوصالها. وهذا مألوف من «الغرب»، وحوله مؤلفات ووقائع. لكن العتب يقع على من ظن أن الأمر يتعلق بسحب الذرائع وتهدئة الخواطر، كما لو كان الأمر يخص سوء تفاهم، بينما الواقع الفعلي يستند إلى الصراع على النهب والسيطرة، أكثر بكثير من استناده حتى الى الصراع حول قيم حضارية أو عامة، سواء تعلقت بحقوق الإنسان عموماً أو بحقوق النساء والأقليات أو بالموقف من الحريات الشخصية. وهذا بدليل التساهل الغربي المشهود مع ليبيا الجديدة لهذه الجهة، مقابل تأمين المصالح الرنانة. لكن الأمر يتجاوز الرغبة في طمأنة الغرب، إلى الضيق بكل أنواع الحراك المطلبي والاجتماعي، واعتباره غير مبرر، وفي غير وقته. فالاحتجاجات في منطقة الحوض المنجمي في تونس لم تهدأ، مثيرة غيظ مسؤولي «النهضة» وتصريحاتهم الحمّالة الأوجه عن وجود مؤامرة، وعن «سياسات أرض محروقة» يتبعها بعضهم لإحراج أهل السلطة الجديدة. كما تتفارق حركة «20 فبراير» في المغرب مع «العدالة والتنمية» حول الاستمرار في التحرك من أجل العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد ومحاسبة ناهبي المال العام، بينما يجيبها بن كيران بأن عليها أن تحترم «ثوابت الأمة» لتُقبل في الحوار السياسي. للبراغماتية الممكنة حدود ضيقة إذاً، سرعان ما يتم الاصطدام بها، سواء في ما خص العلاقة بالغرب أو بما يترتب على الخيارات الاقتصادية الشديدة الليبرالية المتبنّاة (سواء كرمى لعيون الغرب أو عن قناعة محلية) من تفارق مع حاجات الناس وآمالهم، وخصوصاً منهم الفئات المفقرة التي حملت تلك التيارات إلى السلطة. فإلى متى غسيل الدماغ، وقد عبّر عنه كاريكاتور مصري ذائع يظهر رجلاً بائساً يكبله كل أنواع القيود، لكنه يرفع أصبعه مهدداً مستنكراً صارخاً: «إلا البكيني!».