كنت وما زلت أقول إن كثيرًا من مشكلات العالم هي مشكلات لغوية، وأقصد بذلك أن اللغة طرف أساس وجوهري فيها، ربما يتعلق الأمر بمسألة التوصيل لكنه في جانب أهم يرتبط باستعمال الكلمات ودقة الكلمة في موقعها بحيث يتم اختيارها بعناية، حيث لا تسد كلمة مسد كلمة أخرى، وبخاصة أن الكلمات لها إيحاءات وإيماءات، ولها ظلال اكتسبتها عبر تاريخها الطويل. وأرجو ألا يتبادر إلى الذهن أن هذا المقال يتناول قضية انشغال النساء وكثرة ارتباطهن بالأعمال، أو انشغال بعضهن بكثرة الكلام أو الحديث عن أمور معينة مكررة، ولكني أقصد المشاغل وهي المحلات التي تتولى أعمال خياطة الفساتين، وأمور التجميل، وما شابه ذلك، وهي تلك الأمكنة التي تجد عند أبوابها ومداخلها عبارات يتوقف أمامها التفكير اللغوي ويتأملها بُنيةً وتركيبًا وسياقًا ثقافيًّا، فمثلًا، بعض المحلات تضع عبارة (للنساء فقط)، وبعض المحلات تضع عبارة (ممنوع دخول الرجال)، وإذا كانت العبارة الأولى ذات جاذبية من نوع ما، ومغرية بدخول المشغل، فإنها مع ذلك كافية للدلالة على أن هذا المكان لا يدخله الرجال، وبطريقة لينة غير مثيرة أو صادمة، في حين تبدو عبارة (ممنوع دخول الرجال) أكثر حدّة وقسوة في توجيه المعنى للمتلقي الرجل، لأن المسألة توصيل معنى، وهو أن هذا المكان أو المحل فيه خصوصية للنساء، ومع ذلك فإن بعض هذه المشاغل تضع لوحات كبيرة وعريضة وطويلة تحتاج لأن تتوقف أمامها لإتمام قراءة الكلام المكتوب عليها، والذي يتضمن (بناء على التعليمات.. يمنع منعًا باتًا دخول الرجال.. ويجب الالتزام والتقيد..) وهكذا تبدو مثل هذه العبارات موجهة لطائفة من الناس لا يفهمون الكلام، ويحتاجون إلى لغة حازمة وصارمة فيها تلويح بالمخالفة والحكم والعواقب التي تنتظر مَن تسوّل له نفسه الدخول بل إن الخوف يعتري مَن يفكر في هذا الباب وما وراءه أو يرمقه بنظرة لحظة خروج أحد منه أو دخول أحد إليه، أو المرور بجانبه، أو الوقوف أمامه، وهكذا يتحول المكان إلى مكان ملغوم باللغة التي كتبت على لوحة بابه، ومسكون بهواجس الترقب التي تلاحق أي رجل يقترب منه خوفًا ممّن يرصده هناك حتى وإن كان ينتظر أحدًا بالداخل، مع أن الأمر قد تكفي فيه عبارة قصيرة كتبت بلغة حضارية راقية. وهكذا فإن مشاغل الرجال أو انشغالهم باللغة المكتوبة التي تستفزهم على لوحات الأماكن والطرقات والمحلات تصل إلى الحد الأعلى عند أبواب مشاغل النساء.