الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد،،، هذه القاعدة الفقهية متعلقة بكلام المسلم البالغ العاقل، إذ قد يتكلم كلاما عاما يحتمل عدة معاني، وقد تكون بعض هذه المعاني مما لا يمكن تطبيقه وإعماله لأي سبب من الأسباب،ولكن بعضها الآخر يمكن تطبيقه وإعماله، فهنا تأتي هذه القاعدة مصرحة بأن إعمال هذا الكلام العام بتطبيق ما يمكن تطبيقه أولى من إهمال الكلام كله؛ لأن الكلام المهمل لغو، وكلام الإنسان العاقل يصان عنه، فيجب إعمال كلامه قدر الإمكان بحمله على المعاني القريبة. ومن الأمثلة التوضيحية للقاعدة ما لو أوصى رجل وصية لأولاده، وكان الحال أن كل أولاده الذين من صلبه ماتوا قبله، ولم يكن له إلا أولاد أولاد، فإن الوصية تتناولهم؛ لأن إعمال كلامه أولى من إهماله. ومن الأمثلة التوضيحية أيضا ما لو أوصى رجل بأمتعته الخاصة أن تباع وتنفق قيمتها في سبيل الله، وكان له من ضمن أمتعته آلات يحرم استعمالها كالآلات الموسيقية، فإن الوصية تصح في الأمتعة الجائزة، وتلغو في الأمتعة المحرَّمة. ومن الأمثلة التوضيحية أيضا ما لو حلف لا يأكل من هذه النخلة شيئاً، ثم أكل من ثمرها أو جُمَّارها أو دبس تمرها فإنه يحنث، ولا يحمل كلامه على قصد الأكل من عين النخلة، بل يحمل على قصد الأكل مما يتولد منها. ومما ينبغي التنبيه إليه أن هذه القاعدة لا تقتصر على كلام المكلَّفين، بل إنها تشمل كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت نصوص شرعية متعددة، يبدو فيها تعارض ظاهري، فإن أولى ما يتم التعامل معها هو إعمالها جميعا وذلك بطريق الجمع بينهما؛ وذلك للقاعدة الفقهية القائلة: «إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما»،وهي قاعدة متعلقة ومتفرعة عن قاعدتنا. ومن الأمثلة التوضيحية لهذه القاعدة الفرعية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم»، والله أعلم أذكر الثالث أم لا، قال: «ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا» رواه مسلم وأحمد، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» رواه مالك ومسلم وأحمد. فالحديث الأول يذم الشاهد قبل أن يسأل الشهادة، والحديث الثاني يمدحه، والأخذ بأحدهما يعني إهمال الآخر، والأولى إعمال كلا الدليلين، وهذا ما فعله جمهور العلماء، فقد حملوا المدح على شاهد يعلم الحق، ولا يعلم صاحب الحق عنه، فيجب عليه المبادرة بالشهادة؛ حفظا للحقوق، وحملوا المدح أيضا على شهادة لله، يترتب عليها مصالح العباد والثواب من الله.