هناك مقولاتٌ تُردَدْ على مسامع الناس صَباح مَساء، ظاهرُها الرَّحمة، وباطِنُها العذاب، كعبارة "ليس بِالإمكان أحسنْ مِمَّا كان".. هذه الكلمات وغيرها تَعملُ على تَثْبِيط الهِممِ، وتَبثُ الخُنوع والاستِسلام بين أفراد المُجتمع، وتُملي عليهم وُجوب الرِّضَا والقناعة بالواقع الذي يَحيونه، والقُبول بالفساد وكافة صُورِه وأَشكاله، بلْ وتقتلُ رُوح التنافس والإبداع والتفوق والرغبة في التقدم والتطور، وتنشر براثن الوهن والكسل مُبرَّرًا كل ذلك بالميل إلى الاستقرار. كيف وقد أمرنا اللهُ عز وجل أنْ ندعوه لُيبْدِل الحال إلى أحسنِ مِنه، لا بالتواكل، وإنَّما بالتوكل على الله، والعمل الصادق والمُثابرة، فلا يَجوز أنْ نُعَبِّر عنْ رِضائنا بالقرارات المُتأخِّرة والخاطِئة أحيانًا، والمشروعات الفاشِلة وغير الضرورية أحيانًا أخرى بعبارة "أنْ يَأتِي مُتأخِرًا خَيرٌ مِنْ أنْ لا يَأتِي"، فمثلاً قرارات وزارة العمل، والتي يَعتقدُ صَانِعُها أنَّها تَصُبُّ في خانة القضاء على البطالة، وهي بالتأكيد ليست كذلك، وأنا هنا لسْتُ معنيًّا بمُناقشة القرار ومدى صوابه من عدمه، لكن ما أَودُّ الإشارة له هو أنَّ ذلك تحصيل حاصل لسنوات منْ الغفلة عنْ العملِ الجادِ لِلحَدِّ مَنْ هذه الظاهرة حتى تفاقمت، وبَلغَت ذروتها (نِصف مليون عاطل)، فاتُّخِذت تلك التدابير التي أقل ما يُقال عنها ب"التعسفية"، قَضِية أُخرى زيادة مُعدَّلات الاِستهلاك المَحلي مِنْ المُنتجات البترولية (ثلاثة ملايين برميل) بسبب تدنِّي الأسعار، وكانَ قدْ حذَّر مِنها الدكتور محمد سالم الصبان أكثر مِنْ مرة، وعَرض الحُلول المُناسبة، ووضع خُطة يتِمُّ منْ خلالها اِمتِصاص الفرق دُون إثقال كَاهل المُواطن كَي لا يُصدم بِزيادة مُفاجِئة كبيرة بَعدَ سُباتٍ عميق، كذلك ما يَخُصُّ قفلاً مُحِقًّا لِمُستشفى خاص بجُّدة -وسُكَّانُها بحاجة إلى سرير- نتيجة الأخطاء الطِّبية المُتكررة أَودَت بِحياةِ الكثيرين، عقوبة مطلوبة، بل ويجب أن تكون رادعة، لكن كان يجب أن يسبقها تحذير، خصوصًا مع غِياب وزارة الصِّحة عن الساحة، وانقطاعِها عَنْ المُتابَعة والإشْراف، بلْ والرَّقابة بِشكلٍ دوريٍ، أَكْتُبُ اليومَ (جوهر مقالي) عنْ قرار مَنْع التدخين في المطاعم والمقاهي، والذي انتظرناه طويلاً. فما مِنْ أحدٍ إلاَّ مع القرار، حتى أصحابَ المَحَالِ أنْفُسهم. فالمدخنون هُم أولادُنا وأولادُهم، لكن الحِكمة والمَنْطِق أنْ لا يكون قرار المَنْع فُجَائِيًّا دون سابق إِنذار، بعد أنْ كان مُباحًا، حَيثُ إنَّ هذا المَشروع يُشَكِّل مَصْدَرَ الرزْق لِصاحبهِ، ويَعولُ بهِ أهلهُ وذويه، وكيف أنَّهُ وبِسَببْ ذلك باتَ مستقبله ومُسْتقبل أُسرته مُهدَّدًا، بلْ يُنْذِر بَعضُهم بالسجنِ وبئس المصيرِ لعجزهِ عنْ سدادِ الالتزامات المالية والاسْتِحْقاقات الَّتي ترتبت عليه، وكُلُنَا يَعلم قصة الإعلامي كمال عبدالقادر الذِّي سَعى مِنْ أجلِ تحقيق حُلمَ حياته، بإنشاءِ مقهى ثقافي يضُمُّ مكتبةً قيمةً، واقترضَ مِنْ أجلِ ذلك مِئات الألوف مِنْ الريالات، وكيف أنَّه -في اعتقادي- اُضْطُرَّ لتقديمِ "الشيشة" لاجتذابِ الشبابِ وحثَّهُم على القراءةِ، ولسانُ حالِه يقولُ "كِتابًا مع قليل منْ الشيشة أفضلُ منْ شيشة دون كِتاب؛ ليأتِي يَوم ناظره قريب تُصْبِح فيه القراءة وسيلة المنع الأساسية للشيشة"، ويكونُ بذلك قدْ اختار أقل الضررين، مشيرًا بذلك إلى المقاهي بين قوسين غير الثقافية، فهي مَفسدة للعقلِ والبدنِ، خُلاصة القوُل نحنُ مع القرار لكنْ أيضًا مع أنْ يُعطى المعنيون فترة سَماح تُمكنهم من جدولة التزاماتُهم، وسداد ديونهم وإلاَّ نكونُ قدْ أجْرَمْنَا بِحقِهم وحق أسرهم، ولنا في الشرع أكبر مثل، فتحريم الخمرُ لمْ يأتِ مرةً واحدةً، بلْ بالتَّدرج على ثلاثِ مَراحل، فقد كانت الخُطوة الأولى للتعريف بأضرار الخَمر، وترك للمُتلَقي الخيار، ثم مرحلة النهَّي عن قُرب الصَّلاة لمن هم سُكارى، وأخيرًا جاء الأمر باجتنابها في كل الأوقات، ورَبَط ذلك بالفَلاح (يَسألونكَ عنْ الخمرِ والميسرِ قلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناسِ وإثمُهما أكبرُ مِنْ نَفعِهِما) البقرة 219، (يأيُّها الذين أمنوا لا تَقْربُوا الصَّلاةَ وأنْتُم سُكارَى) النساء 43، (يأيُّها الذين آمنُوا إِنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزلامُ رجْسٌ مِنْ عَملِ الشيطانِ فاجتَنِبُوه لعلَّكُم تُفْلِحون) المائدة 90، صَدَقَ اللهُ العَظِيم. dr.mahmoud @batterjee.com