نفى الدكتور سعيد السريحي ما نسب إليه من إشارة بفشل مشروع الحداثة عن تحقيق أهدافه في المملكة العربية السعودية، مبينًا أن حديثه حول هذه النقطة تركز حول تعرض الحداثة كحركة للفشل وليس الحداثة كإنتاج، وتأكيدًا على رؤيته أضاف بقوله: «إن الحداثة هي رهان المستقبل ومن يراهن على المستقبل لا يفشل». جاء ذلك في تعقيبه على إحدى المداخلات في أمسية تكريمه يوم أمس الاول بمنتدى الاثنينية في جدة، حيث قلّب السريحي أوراق مسيرته في العلم الثقافي التي امتدت لأكثر من ثلاثين عامًا، قائلًا: أشهد الله أنني ما حمد من حولي مني أمرًا أو أطروا شأنًا إلا نهضت في صدري نفس لوامة تأخذ بتلابيبي تسائلني: أين أنت مما هيأت له نفسك وتوهمت أن تكون: ثم لا يسعفني من لومها حين تشتط في اللوم وعتبها حين تبالغ في العتب إلا ما تعلمه من وفائي بما عاهدتها عليه من حرص على الصدق في زمن كاد الصدق يكون فيه إقدامًا على التهلكة ووفاء بأمانة الكلمة في حقبة كان الوفاء وأمانة الكلمة تضحية بالمستقبل العلمي. وفي رده على مداخلة حول رؤيته النقدية فيما يسمى ب»الربيع العربي» وأثره على الحراك الثقافي والتحول الفكري، أبدى السريحي قلقه من أن تختطف ثورة الجماهير التي حركتها الإرادة الشعبية لإحداث التغيير، كما استجاب السريحي لإلحاح الجمهور وطلبهم بتقديم بعض القراءات الشعرية مما أتاحته له الذاكرة حسب قوله. وفي لفتة نالت تقدير الحضور قام الدكتور السريحي بإهداء تكريمه في الاثنينية إلى معلميه الأوائل، خصوصًا في مراحله الأولية بمدرسة الرويس الابتدائية التي تتلمذ فيها على يد مجموعة من المعلمين الغزاويين محاولًا ذكرهم بأسمائهم ما أسعفته الذاكرة، تكريمًا لغزة (تلك التي كلما نهضت من تحت الرماد شامخة أحسست أننا أمة لا تموت)، وقد تفاعل الحضور كثيرًا مع هذا الموقف النبيل لضيف الاثنينية. مدرسة نقدية وكان مؤسس الاثنينية عبدالمقصود خوجه قد استهل الأمسية بكلمة أشار فيها إلى أن الاحتفاء بالدكتور السريحي «احتفاء بمدرسة نقدية ذات جذور وفروع، نمت فأزهرت وأثمرت.. بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع رؤيتها الأدبية والثقافية وما تكتنفه من مشروعات فكرية». لافتًا إلى أن حركة الحداثة في تجليات خطابها الفكري واجهت سجالًا عنيفًا لكونها تدعو فيما تدعو إليه الى ضرورة عصرنة التراث وإعادة قراءته، وما شهدته الحياة من تغيرات بنيوية عميقة تستدعي استنطاقا أكثر عمقًا لنصوص التراث مواكبة لمستحدثات العلم وتماشيًا مع ما يشهده المجتمع نفسه من حراك. وأضاف الخوجة قائلًا: المنهجية النقدية عند الدكتور السريحي - بحسب ما لمسته من بعض ما تهيّأت لي مراجعته من قصاصات نقدية - تحاول أن تكتشف شيئًا ما بعيدًا فيما تقرأه من التراث، فهي تدعو لا إلى قراءة الإرث التاريخي فحسب، بل وإلى إمعان النظر، والقدرة على النفاذ داخل تجاويفه لتكتشف شيئًا جديدًا فيما تخبؤه هذه الحفريات، وفي تقديرنا أن الدكتور السريحي يعد واحدًا ممن ساهموا في تشكيل ذائقة نقدية وجمالية لها خصوصيتها، بمؤلفاته المتواترة في النقد والتي لاقت احتفاء وترحيبًا في المشهد الثقافي السعودي - اتفقنا أو اختلفنا حولَها - فكان لكتابه النقدي (الكتابة خارج الأقواس) صدى كبير في خلق حوار فكري عميق ومتصل، وفي القليل من أشعاره التي أتيح لي أن أطلع عليها، وجدته يأخذني إلى أقاصي النشيج بلغته الشعرية الفادحة، فالحوار الحميم الذي يسِم لغته يحيل البناء الشعري عنده إلى غنائية تتماهى فيها المعاني، وتتموقع فيها الصور في مكان ما داخل النّص دون أن تشوّش على طلاوة الانسياب الموسيقى لمفرداتها المنتقاة من قاموس يخص تجربته الشعريةَ المتفردة بحضور أخّاذ. ويختم الخوجة كلمته متطرقًا إلى تجربة السريحي في المقال الصحفي قائلًا: لقد تناول المقال الصحفي بمهنية راقية، بما حبي به من رصيد تجارب ثرية، يغوص في أعماقه، له أساليبه الخاصة التي تتناسب مع كل مقال يتعامل معه بمفاتيحه وأدواته الخاصة والمتنوعة، ليصل نداؤه إلى أبعد مدى مستعينًا بذكائه الفطري الموشح بأدب النفس واحترام الآخر.. له أساليبه الخاصة في إدارة دفة الحديث بما يتناسب مع كل مقال.. يلجأ إلى السخرية بعض الأحيان حين لا يجدها إلا طريقا لتوصيل صوته ورأيه وفكره.. عندما يشعر بألا جدوى من الجدية، يطلق عليها «البكاء المر الذي يتحول إلى ضحك» يسترجع بيت القباني، «كان في ودي أن أبكي ولكني ضحكت». شهادات حول السريحي كذلك شهدت الأمسية كلمة للكاتب عبدالله فراج الشريف قال فيها: السريحي هو نتاج مرحلة مرّ بها الأدب في بلادنا، تاق فيه أهله للإعتاق من ربقة التقليدية التي آلت مع تطاول الزمن إلى اعتياد هو الجمود ذاته، الذي لا ينتج إبداعًا، فلما رفعت الحداثة في الأدب راية، كان من أولئك النفر الذين خاضوا غمارها أدبًا ونقدًا شعرًا ونثرًا جدالًا وخصومة، فهو مثال حي يثبت أن صحافة هذه البلاد كما قامت على جهود أدباء ومفكري الوطن، فإنها أيضًا نهضت ولا تزال تحيا من خلال جذب المعلمين وهو أحدهم إلى بلاطها، تميز بثباته على مبادئها لا يحيد عنها. الكاتب الصحفي عايل فقيهي شارك أيضًا بكلمة أوضح فيها أن الدكتور السريحي يمثل المحرك والمحرض على صناعة فعل ثقافي وصحفي مختلف تمتزج فيه القيمة المعرفية والإبداعية مع لغة صحفية تختلف عن السائد في الصحافة الثقافية، كانت هذه اللغة منحازة على المستوى الإبداعي والفكري إلى الحداثة، والدعوة إلى إعادة النظر في فهم الشعر والأدب والخروج بخطاب ثقافي جديد ومختلف، وكانت تلك السنوات هي سنوات الدخول في معركة القديم والجديد في الصحافة الثقافية السعودية بعامة. أما الدكتور عبدالمحسن القحطاني فاكتفى بالقول:عرفت الدكتور السريحي أمينًا صادقًا عفيفًا، لم يعرف عنه إساءة لأحد حتى مع خصومه، وكان مثالًا للكاتب المبدع.