قد يكون إفراط حماس المتشددين بناءً طبيعيا ونتيجةً حتمية للفكرة المتشدِّدة نفسها وللحماس لها كنت أشكو من ضعف حماس بعض المؤيدين للاعتدال والراغبين في الوسطية، فكثير منهم في تأييدهم للاعتدال مصابٌ بنوبة برودة مزمنة ، فلا يكادون يبذلون للدعوة إلى الاعتدال والدفاع عنها إلا أقل القليل. ومكثتُ فترةً أظن سبب ذلك أمرًا فكريًّا، ولذلك فقد كنت أكرر دائما التذكير بالفرق بين أمرين، هما : 1- رزانة الاعتدال وتَؤُدتُه. 2- وعدم الحماس له والتراخي في الدفاع عنه. فالحماس للاعتدال لا ينافي الاعتدالَ نفسه، ولا يناقض رزانته وأناته وحلمه، وليس من الصحيح أن ترتبط في الأذهان كل حماسة بالتشدد والتهور والاندفاع الذي لا تُحسب عواقبه، هذا ليس بصحيح؛ فتوسُّطُ الصحابة (رضوان الله عنهم) واعتدالُ منهجهم لم يمنعهم من شدة حماستهم لهذا الاعتدال، ولا خفّفَ من قوة دفاعهم المستميت عنه. وكنت أظن أن هذا الخلط فقط هو السبب في فتور المؤيدين للاعتدال، ولا شك أن هذا هو سببه الوحيد عند بعضهم فعلا. وهؤلاء أمرهم هين، وليس بينهم وبين أن يتحمسوا للاعتدال وأن يقوموا بواجب الدفاع عنه؛ إلا بأن يدركوا عدم التعارض المذكور بين رزانة الاعتدال والحماس له. ثم تنبهت أن من أسباب فتور بعض المؤيدين للاعتدال هو فتور التديّن أصلا عندهم ! فميل أحدهم للاعتدال إنما هو ميلٌ منه لكل ما يخفف عنه تكاليفَ الالتزام والاستقامة، ويأتي التشدّدُ في الجهة القُصوى والمضادّة لميله هذا، ولذلك يميل مثلُه إلى الاعتدال؛ لا قناعةً به، ولا تمييزًا لفضيلته في التوسط على نقيصة التزمّت والتشدد في الغلو والتطرف. وبذلك يتبين أن ضعف الحماس للاعتدال قد يكون بأحد سببين: 1- عدم التفريق بين الاعتدال في الحماسة للاعتدال والإفراط والغلو في الحماسة. 2- وقد يكون بسبب فتور في التدين ، ونقص في الاستقامة. وبتشخيص هذين السببين من أسباب الفتور في الحماسة عند بعض مؤيدي الاعتدال، نستطيع أن نُحسن وصف العلاج، أو أن نُحسن التعامل مع المصابين بذلك الفتور. وفي الجهة المقابلة من أهل الفتور: نقف مع حماسة بعض المتشددين لتشددهم، تلك الحماسة المفرطة التي نكاد تكون صفةً ملازمةً لهم؛ لأن مجرد اعتناقهم للتشدد مبدأً وفكرةً هو إفراطٌ منهم بحد ذاته، فكيف إذا قاده هذا الرأيُ المتشدّدُ إلى الحماس له ؟! فهو غلو فوق غلو، وتطرّف على تطرف!! وعلى هذا: قد يكون إفراط حماس المتشددين بناءً طبيعيا ونتيجةً حتمية للفكرة المتشدِّدة نفسها وللحماس لها، كما سبق. وقد تكون أيضًا هذه الحماسةُ هي أسلوبَ الدفاع غير العلمي ولا الموضوعي ولا العادل عن التشدد، فمثل هذا الإفراط في الحماسة الذي ينتهجه المتشددون غالبا: هو في ظنهم أحسن أسلوب لتغطية جهالة فكرتهم وبُعدها عن المستند الصحيح. ولذلك فقد كان هذا الحماسُ المفرِطُ نفسُه هو أسلوبَ صناديد الكفر في عدائهم لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بلغت حماستهم في عداء النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته حدا منقطع النظير، في شدتها وإفراطها وبُعدها عن التعقّل، فضلا عن الاعتدال ! كل ذلك بغرض منع العقول من التعقل، ولأجل حَجْبِهم عن إدراك بطلان ما هم عليه من الباطل. فمحاولة إخفاء قوة حجة الخصم بالحماسة وحدها: هذا هو منهج أهل الباطل. أما أهل الحق: فيُظهرون قوةَ حجتهم وضعفَ حجة الخصم بالحماس لهذا الإظهار؛ فلا يُظهرون قوة حجتهم بالحجة وحدها ، بلا حماس لإظهارها . ولا يُظهرونها بالحماس وحده، بلا حجة، كما يفعل المتشددون !