بعيدًا عن تقاذف الاتِّهامات الَّتي امتلأتْ بها صفحاتُ التَّواصلِ الاجتماعي، وصفحاتُ بعض الجرائدِ بين الحجَّاجِ وبعض الجهات المختصة، ففريقُ الحجيجِ أراد أن يُجسِّدَ مُعاناته من قَلْبِ الحَدَثِ فكتبها بِمِداد القهر وعرق الشقاء الذي عاشه تحت لهيب الشَّمس الحارقة، وفريق تلك الجهات تَعِب وعانى من التَّخطيط والترتيب لهذه الحُشُود الحَاشِدة لشهورٍ وليالٍ طويلة، ثم بعد هذا العناء يسمع كلمات اللَّوم والعتاب والاتِّهام بالتَّقصير. فَكُلُّ فريقٍ معه الحق فيما أَبداهُ من وجهة نظره المنطلقة من معاناته، ولَكنْ مع كُل هذا علينا أن نحاولَ التَّحكُّم في ميزانِ غضبنا ونأخذ كلام الآخر بعين الاعتبار وَنقفَ بحيادية أمام الحَدَثِ حَتَّى نضعَ أيدينا على صَميمِ المشكلة ونتمكَّن من حَلِّها. إِنَّ إسناد أسبابِ الفَوضَى التي حصلت في قطار المشاعرِ إلى فئةِ المفترشين المخالفين لِلنِّظام والقاصدين للحج بِدون تصاريحَ، وأكثرهم مِن حُجَّاج الدَّاخل، والبالغ عددهم أكثر من مليون ونصف حاج، هذا التَّصريح الذي أدلى به بعض المسؤولين بالجهات المختصة، إنَّما هو الخيط الذي يَدُلُّنا على أساس المشكلة، ويضع أيدينا على قَلبِها، ويُحتِّم علينا أن نسأل أنفسنا عن أسباب تزايد الافتراش بعد أن كِدنا أن نقضي عليه، فقد أصدرت مصلحة الإحصاءات العامة أنَّ أعداد الحُجَّاج غير النظاميين كان في عام 1429ه أقل من 600 ألف حاج، ثمَّ انخفض في عام 1430ه إلى 445 ألف حاج، ثمَّ أخذت الأعداد في الزيادة عامًا بعد عام فوصلت عام 1431ه إلى 900 ألف، وفي عام 1432ه وصل العدد إلى مليون حاج، وقد وصل هذا العام إلى مليون ونصف حاج تقريبًا، منهم على سبيل المثال: 260 ألفًا من الجنسية المصرية، وأكثر من 200 ألف من الباكستان، وأكثر من 70 ألفًا من اليمن، والباقي من الجنسيات الأخرى، وأنَّ 70 ألفًا من هؤلاء المفترشين قد سبق لهم الحج أكثر من مرَّة، وبعضهم أكثر من 10 مرَّات وبعضهم أكثر من 30 مرَّة. هذه الإحصائية الرَّسمية تكشف عن أمِّ المشكلات، والسبب الرئيس وراء كل كارثة تحصل وأنا أُرجِّح بِشدَّة هذا السَّبب لِمَا رأيته بأمِّ عيني من عودة ظاهرة الافتراش، وبِشَكلٍ لا يُطاق ليس في فترة الحجِّ فحسب، بل حتَّى في شهر رمضان. ومن هنا كان على الجهات المختصة أن تتساءل عن أسباب هذا التزايد المستمر لهذه الظاهرة، وسيجدون أنَّ الجواب هو: (مَنْ أَمِنَ العقوبةَ أساءَ الافتراشَ)، أو بمعنى أدق (مَن رَأى التَّسامُح في هَكذا أمر سيُكرِّره مرَّات ومرَّات)، وهذا في نظري حَجَر العَثرة أمام تقدمنا، فالعقوبات تَصدُر ولكنَّها قد لا تُنفَّذ لعدمِ وجود متابعة صَارمة، ودَائمة، وعادلة، وأقصد بالمتابعة الصَّارمة متابعة تنفيذ العقوبات الرادعة، وأقصد بالدَّائمة أن تكون المتابعة مستمرة وبنفسِ القوة على مرِّ الزَّمن لا أن تشتد المتابعة عند صُدور العقوبة ثمَّ يكون التَّهاون، وأقصد بالمتابعة العادلة أن تطال العقوبة الجميع دون استثناء. [email protected]