عنوانُ المقالِ أعلاه، هو عينُ مقالٍ كتبْتُه قبلَ أكثرَ من أربعِ سنواتٍ ونيفٍ في العاصمةِ الإسبانيةِ؛ في 16- 18 يوليو 2008م؛ ومع ذلك، دعوني أسأل: هلْ تتذكَّرونَ ذلكَ التَّأريخَ؟! لا شكّ أنَّ الكثيرين لا يتذكَّرونه؛ ولكنَّني أُجْزمُ تمامًا أنَّ الجميعَ يتذكَّرونَ تلكَ الدَّعوةِ المباركةِ التي تبنَّاها خادم الحرمين الشَّريفين -كساه اللهُ لباسَ العافيةِ، ودثَّره عباءةَ الصِّحة- وهي تنطلقُ من القصرِ الملكيِّ الإسبانيِّ، في مؤتمرِ "الحوار بين أتباع الأديان والثَّقافات" العالمي، وخادم الحرمين يُلْقي كلمته ناطقًا ب(اسم الإسلام)، بعيدًا عن كل الصِّراعاتِ والتَّحزُّباتِ؛ حتّى أصبحت كلمته بحقٍ وثيقةً تاريخيّةً في زمنٍ غلبت فيه (رائحةُ الدَّمِ) على (رائحةِ السِّلمِ). تذكّرتُ ذلكَ المؤتمر، وبما حمله من دعْوةٍ كريمةٍ للحوارِ، ثمَّ مرَّت السَّنواتُ سراعًا، مع يقيني أن توطينَ الحوارِ وتفعيله لم يغبْ عن قلبِ خادمِ الحرمين الشَّريفين، وقد عُرِفَ عنه -بشهادةِ الجميعِ- حبُّه للسّلامِ، وتطلّعُهِ للتَّآلفِ، ونهَمُه لزرعِ بذورِ الخيرِ في أرجاءِ هذه المعمورة. قبل أيامٍ تابعْتُ بركاتِ تلك المبادرةِ حينما تفهَّمت الجامعةُ الإسلاميةُ بقيادة مديرها معالي الأستاذ الدكتور محمد العقلا، بما عُرِفَ عنه مِنْ حسٍّ دينيٍّ مفعمٍ بالإيمانِ، وروحٍ وطنيِّةٍ محبّةٍ لهذه الأرضِ الطَّاهرةِ القيام بدورها من خلالِ تفعيلِ تلك المبادرة، وإحيائها من جديدٍ، فعقدتْ ندوة علميِّة في العاصمة الماليزيِّة كوالالمبور في 18 / 11 / 1433ه، بعنوان "مبادرة خادم الحرمين الشَّريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار بين أتباع الأديان والحضارات"؛ ذلك إيمانًا منها بمبدأ الحوارِ بين أهلِ الأديانِ كمبدأ قرآنيٍّ خالصٍ، وأسلوبٍ نبويٍّ مشروعٍ، إذ نجدُ القرآنَ ينادي أهلَ الكتابِ و-حتَّى المشركين- في أكثر من موضعٍ، محاورًا لهم في شُبَهاتهم، ومتسائلاً عن أدلّتهم، يقابلُ الحجَّة بالحجَّة، منطلقًا إليهم ممّا يؤمنون به، ومحتجًّا عليهم بما يعتقدون، ومناقشًا لهم فيما خالفوا فيه الحقَّ -بحسب تعبير الدكتور محمد العقلا-. لقد خَرَجَ اللقاءُ بحزمةٍ من التَّوصياتِ الجليلةِ، التي ينبغي أنْ تفعَّل على أرضِ الواقعِ، لا أقولُ الجامعة الإسلاميِّة وحدها؛ فأطرافُ تفعيلِ تلك التَّوصيات يقعُ على عاتقِ أصحابِ القرارِ في كلِّ مكانٍ؛ لأنَّ العاقلَ منَّا ينبغي له أنْ يتْفهَّمَ جيّدًا أنَّ العلاقةَ ما بين الإسلامِ والدّيانتين المسيحيّة واليهوديّة -خاصّة- علاقةٌ أبديِّةٌ، فإذا آمنَّا بهذا؛ فقد وجب أنْ نبنيَ جسورًا مع مَنْ نختلفُ معهم، فروحُ الإسلامِ في العلاقةِ القائمةِ بين المسلمِ وسائرِ بني الإنسانِ، تكشف عنها أكثر من آيةٍ في القرآنِ الكريمِ. أليست تلك حكمةً إلهيّةً تنمو مع أكبر الجماعاتِ إلى أصغرها، وتزدادُ نموًّا إلى جماعةِ النَّوعِ الإنسانيِّ في جُمْلته، وإلى جماعةِ الأسرةِ، وإلى طبيعةِ الاجتماعِ في كلِّ مخلوقٍ إنسانيٍّ منذ تكوينه في أصلابِ آبائه وأجداده؟! بلى؛ إنَّ حكمتها كلّها فيما يتعلَّمُ المسلمُ في كتابهِ أنَّها وشيجةٌ من وشائجِ المودَّةِ والرَّحمةِ، وسبيلٌ إلى التَّعارفِ والتَّقاربِ. فالتَّعارفُ هو حكمة التَّعدد، والتَّكاثر بين الشُّعوب والقبائل من أبناء آدم وحواء: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لتعارفوا". كما أنَّ المؤمنين إخوةٌ، والنّاسَ إخوانٌ من ذكرٍ وأنثى، وشرُّ ما يخشاه النَّاسُ من رذائلهم أنَّها تُلقي بينهم العداوةَ والبغضاءَ، كما يشي الخطابُ القرآنيُّ في قوله:" إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ".