أستطيعُ أنْ أتفهّمَ أهميّةَ بعضِ اللّغاتِ الأجنبيّةِ في الممارساتِ السّياسيّةِ، أو المعاملاتِ الدّوليّةِ، أو في التّعاطي مع بعضِ شؤونِ المثاقفةِ؛ ولكنَّني لا أستطيعُ أنْ أَخْرجَ بنتيجةٍ مُرْضيةٍ أُقْنع بها نفسي في أحايينَ كثيرةٍ، وهناك جمعٌ غفيرٌ من أبناءِ جِلدتنا يتعمَّدون أنْ ينسلخوا من جلودهم المكشوفة، وهم يتبارون في تشكيلِ شوارعنا، وأوراقنا الرَّسميّةِ بالمفرداتِ الأجنبيّةِ في مجتمعٍ عربيٍّ إسلاميٍّ؛ حتّى حَضَرتْ اللّغةُ الإنجليزيّةُ، والهنديّةُ، والتّركيةُ.. وغيرها من اللّغات، وأضحت شوارعنا ومحالّنا التّجاريّة، وبعضُ أوراقنا الرّسميّة كشكولَ لغاتٍ، تفوحُ منها رائحةُ الإسقاطِ، وضياعُ الهويّةِ!! لنْ أتّخذَ أسلوبَ الوعظِ كمطيّةٍ مُسْتهلكةٍ؛ مع أننّي أحملُ في داخلي غيرةً إسلاميّةً وعربيّةً على لغتنا!! ولنْ أحملَ على ظهري قوميّةً عربيّةً لستُ من أصحابها؛ ولكنَّني أحملُ همًّا على لغةِ القرآنِ الكريمِ!! قبل فترةٍ ليست ببعيدةٍ حَمِدنا لصاحبِ السّموِ الملكيِّ الأمير خالد الفيصل تلك الغيرة الإسلاميّة والعربيّة، وهو على أعتابِ إحدى القاعات، حينما وجّه بنبرةٍ قويّةٍ بأنْ يتمَّ كتابةُ جميعِ الأسماءِ والّلوحاتِ التّجاريّةِ في شوارع مدنِ وقرى منطقةِ مكةالمكرمة بالأسماءِ العربيّة، وتساوقًا مع تلك الغيرةِ "ألزمت إمارةُ منطقةِ مكةالمكرمة المنشآت التّجارية بأهميّةِ استخدامِ التّاريخِ الهجريِّ بدلاً من الميلاديِّ"، وأكدت الإمارةُ "على ضرورةِ إبدالِ استخدامِ التّاريخِ الهجريِّ بالميلاديِّ حفاظًا على هويةِ التّاريخِ الهجريِّ الإسلاميِّ". وعطفًا على ذلك؛ فقد لاحظت الإمارةُ مؤخرًا بعضَ الإجراءاتِ الصّادرةِ من بعضِ المصالحِ الحكوميّةِ وغيرها أنَّها تستخدمُ التّاريخَ الميلاديَّ، أو تورده في صلبِ الإجراءاتِ دون الحاجةِ إلى ذلك، وبيّنت الإمارةُ أنَّ ذلك يُعدُّ مخالفةً للأمرِ السَّاميِّ، وما قبله من أوامرَ كريمةٍ تنظِّمُ هذا الأمر. ورصدت الإمارةُ في أقسامِ الاستقبالِ في كثيرٍ من الفنادقِ، والشّركاتِ في التّخاطبِ اعتمادها على اللّغةِ الإنجليزيّةِ، ووجَّهت الإمارةُ بالتّأكيدِ على الجهاتِ ذات العلاقةِ بالالتزامِ باستخدامِ التّاريخِ الهجريِّ في جميعِ مخاطباتِها، وعند الحاجةِ يمكنُ أنْ يُقرن به التّاريخُ الميلاديُّ الذي يوافقه، مع التّأكيدِ على التّخاطبِ باللغةِ العربيّةِ اعتزازًا بها. وَلَكُم أنْ تقرأوا ما بين غيرةِ (الفيصل)، وتوجيهِ (الإمارةِ) وبين (الواقعِ)..!! بين يدي السّاعة كِتابٌ جميلٌ يحملُ همًّا معرفيًّا وفكريًّا للأستاذ الدكتور عبدالرحمن الوهابي بعنوان (في نقدِ الحضارةِ وثقافةِ العولمةِ.. الموقفُ والخطابُ 2007م)، حوى الكثيرَ من الرّؤى الخلاّقةِ التي تستحقُّ أكثرَ من وقفةٍ؛ ولكنّني سأستقطعُ منه هذه الفقرةَ تساوقًا مع الأسطرِ قبلاً؛ يقولُ الوهابيُّ: "إنّ ما تعتمده الجامعاتُ البريطانيّةُ من التزامٍ بالكتابةِ الإملائيّةِ بالإنجليزيّةِ البريطانيّةِ بشكلٍ رسميٍّ حتّى في البحوثِ الجامعيّةِ التي تُكْتب من قِبل أجانب ما هو إلاّ نوعٌ من الاعتزازِ بالهويةِ اللّغويّةِ والتّأريخيّةِ، ومطالبة بحقّ مشروعٍ ضمن حدودِ السُّلطةِ التَّعليميَةِ، مع كون اللغةِ الإنجليزيّةِ الأمريكيّةِ أكثرَ من الأولى اعتمادًا في المجالاتِ الرّسميّةِ والقانونيّةِ في العالم". ولا يخفى علينا جميعًا ما كانت عليه اللّغةُ (العِبريّةُ) وقد تحوّلت من لغةِ عبادةٍ يتعاطى معها أناسٌ معدودون إلى لغةِ علمٍ، وسياسةٍ، وثقافةٍ، واجتماعٍ، وقد اتّخذ اليهودُ مقولةَ إليعازر بن يهوذا: "لا حياةَ لأمَّةٍ بدون لغةٍ" شعارًا للّحفاظِ على لغتهم، حتّى امتدَّت (العِبريَّةُ) إلى كلِّ مناحِي الحياةِ الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ، والفنيّةِ، والسياسيّةِ، وقد أصبحَ لها حضورُها في المؤتمراتِ، ولافتاتِ المتاجرِ؛ فضلاً عن الأماكن العامَّةِ والمنتديات.