يستعمل الإنسان اللغة كأداة للتعبير عن أفكاره وانفعالاته ورغباته، وهي وسيلة الاتصال الأولى منذ أن خلق الله الإنسان واستخلفه في هذا الكون.. واللغة بكتابتها وقراءتها وسيلة من أهم وسائل التنوير الذهني والنهضة الفكرية، وهي الحاضن الرئيس لحضارة الأمة الناطقة بها والمعبر الحقيقي عن هويتها وفكرها وثقافتها. ولقد شرّف الله تعالى اللّغة العربية أن جعلها لغة القرآن، فجعلها تحمل رسالته العظيمة للنّاس كافة، إذ يقول سبحانه (إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلّكم تعقلون)، سورة يوسف، الآية 2، وقوله تعالى وهو يخاطب نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم (فإنّما يسرناه بلسانك لتبشّر به المتّقين وتنذر به قومًا لدّا)، سورة مريم، الآية 97، وما تفضيله سبحانه وتعالى للّغة العربية على سائر لغات العالم الإنساني، إلا لعلمه جلّ علاه بقدرتها على العطاء والإبداع في كلّ زمان ومكان وأنّ بإمكانها التّعامل والتّعايش مع كل اللّغات الأخرى. ولغتنا العربية لها خصائص جمّة في الأسلوب والنّحو، وهي لغة حيّة غنية بمفرداتها وأساليبها، وعذوبة منطقها، ووضوح مخارج حروفها.. مفرداتها وفيرة وكلّ مرادف ذو دلالة جديدة، وما من حيوان أو نبات أو جماد إلا وله الكثير من الأسماء والصّفات ممّا يدلّ على غنى هذه اللّغة الجميلة، التي تمتاز بالمرونة والاتساع، والقدرة على الاشتقاق.. يصفها عبّاس محمود العقّاد باللّغة الشاعرة، ويعتزّ بها الأديب الشاعر علي صالح الجارم برغم تمكّنه المطلق من اللّغة الانجليزية، فيتغزل بلغته الأم قائلًا: نزل القرآن بالضاد فلو لم يكن فيها سواه لكفاها وقد نقلت لنا أخبار كثيرة عن سلفنا الصالح، توضح لنا المكانة العظيمة للّغة العربية في نفوسهم وحرصهم الشّديد على سلامتها وإبعادها عن مواطن الانحراف والزّلل. وقد مرّ علينا قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عندما لحن رجل بحضرته «أرشدوا أخاكم فقد ضلّ»، وهذا أبوبكر الصّديق رضي الله عنه يقول «لأن أقرأ فأسقط أحبّ إليَّ من أن أقرأ فألحن»، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه «تفقهوا في العربية فإنّها تزيد في العقل، وتثبت المروءة»، وهذا عمر بن عبدالعزيز يعطي رجلًا من بني عبدالدار مائة دينار بدلًا من مائتين لأنه لحن في الأسماء الخمسة، وقد كره الإمام الشافعي رحمه الله لمن يعرف اللّغة العربية أن يسمي بغيرها وأن يتكلّم بها خالطًا لها بالعجمية. وبالرغم من ذلك التاريخ المشرف للّغة العربية، إلا أنها تراجعت بعد ذلك عن موقع القيادة، وابتليت بتهاون أبنائها المفرط وكيد أعدائها المحكم، وازدادت المعاناة مع توالي السنين، وها هم أبناء هذا الجيل يتقاعسون عن حماية لغتهم والذود عنها والإبداع فيها، فالواقع يقول إنّنا نشهد ضعفًا ملحوظًا في أوساط الطلبة في فنون اللّغة العربية كالإملاء والنّحو والأدب والتعبير، وهناك من يعمل على إدخال مفردات كثيرة وغريبة لا تنتمي أصلًا للّغة العربية إلى لهجتنا المحلية لتحلّ مع الوقت مكان الكلمات الأصلية فتشوّه في مجملها لغتنا العربية الجميلة، وآخرون يسعون إلى تحويل اللّهجات المحلّية من المستوى الشفهي إلى المستوى الكتابي، فضلًا عن دعم الشعر الشّعبي بأنواعه، أمام ضعف تشجيع شبابنا على النتاج الأدبي الفصيح، وهو الأولى برأي الغيورين على لغتنا الخالدة. وأصبحنا نشاهد ظهور الحروف اللاتينية على واجهات المحلات، ناهيك عن الأخطاء الإملائية في الإعلانات الكبيرة والكثيرة التي تمتلئ بها الشوارع.. وما يثير الدّهشة أنّ هناك حرصًا على المطالبة بتعليم اللّغة الانجليزية، بينما نتجاهل ضعف مستوى أبنائنا في اللّغة العربية، ولا ضير أن يسعى الإنسان إلى التوسّع في العلم والمعرفة وإتقان اللّغات الأجنبية، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب اللّغة الأهلية. هذا هو الواقع للأسف وكلّنا بلا شك مسؤولون عن ذلك، فيجب علينا أن نحيي لغتنا الرّائعة في نفوسنا ونفوس أبنائنا، وعلينا أن ندرك أنّ بين أيدينا كنزا عظيما، ينبغي علينا الحفاظ عليه والاهتمام به اقتداءً بسلف هذه الأمّة العظيمة. إنّ الحفاظ على اللّغة العربية والارتقاء بمكانتها في المجتمع هو دفاع عن الدّين والحضارة، فاللّغة العربية هي لغة القرآن والسنّة، وهي روح الأمّة ووعاء فكرها وتراثها، وحائط الصدّ القوي أمام التأثيرات الثقافية الوافدة، وتبقى المسؤولية تجاه المحافظة على لغة القرآن الكريم كبيرة على دولتنا، فهي مهبط الوحي وحاضنة الحرمين الشريفين، وبلادنا هي مولد اللّغة العربية ومصدرها، وينبغي ألا يعتري أبناءنا لكنة، ولا يصيب لسانهم عوج لا يستقيم معه بيان. (*) كاتب وباحث أكاديمي